كتب ميشال ن. أبو نجم: لا يمكن لمراقب مسيرة التدقيق الجنائي منذ الصعوبات التي وضعها نبيه بري ووزراؤه أمام الرئيس ميشال عون، وصولاً إلى صدور التقرير الأولي، إلا أن يقرّ ويعترف أخيراً بانتصار عون وهو في الرابية بعد نحو عام على خروجه من بعبدا، بعد أن تمكن من غرز التدقيق رغماً عن المنظومة، لا بل أنه توصل إلى تعريتها وفضحها، بعد مسار طويل من المواجهة.
من المفيد لا بل الضروري التذكير بكل العقبات التي حاولت المنظومة زرعها ألغاماً في طريق التدقيق الجنائي. من اتهام شركة “كرول” بالصهينة، إلى الحد من فاعلية التدقيق، وصولاً إلى عرقلة تسليم المستندات. الأهم من كل ذلك الحملة الإعلامية المسعورة التي شنّتها أدوات المنظومة بكل شراستها على التدقيق، ومعها جرفت القاضية التي بادرت إلى ملاحقة المرتكبين في المصارف والسياسة منذ اليوم الأول بعد “17 تشرين”.
ذلك أن المساءلة والمحاسبة القضائيتين، تبقيان في عهدة القضاء الممسوك بغالبيته من المنظومة السياسية – المصرفية، كما يتجلى ذلك في “تغنيج” بعض القضاة رياض سلامة الملاحق والمتهم ب”السيكار” وما شابه.
كما أن المحاسبة الفعلية تبقى دونها الصعوبة الأبرز وهي التحاق شرائح من جماعات طائفية بزعاماتها الحاكمة منذ العام 1992، ولذلك لم يكن الهدف الأول الملاحقة القضائية على أهميتها، بل أكثر رمزيةً.
وتكفي بعض المقاطع المسربة، على قلتها حتى الساعة، لتعرّي أكبر الجرائم المالية والإقتصادية التي حصلت في لبنان على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، ولتبرز إلى العلن حقيقة الأدوات المالية والإقتصادية والإعلامية والسياسية التي استخدمتها المنظومة لتنهب وتسرق أموال الشعب اللبناني، وبكل وقاحة. وأولى تلك الجرائم، الهندسات المالية التي كانت ضحيتها عشرات مليارات الدولارات وأدت إلى تخمة أدوات المنظومة المصرفية – السياسية، التي أصر أدواتها على الوقاحة في مواجهة الشعب اللبناني.
وفيما وصلت باخرة الحفر في بلوك 9 لتكرّس عهداً جديداً للبنان النفطي ولموقعه الإستراتيجي في معادلات الغاز في شرق المتوسط، أتتْ تقارير التدقيق الجنائي لا لتبرئ عون من دمغة “ما عمل شي”، بل لتسقط حتى كل الضجيج والغبار الذي أثارته الدوائر المحرّكة ل”17 تشرين” والخطاب الإستغلالي للمطالب العفوية المحقة في بداية أيام الحراك.
في البداية خاطبهم ميشال عون من بعبدا وأعلن تبنيه المطالب. ارتفع البخار ببعض مراهقي السياسة وظنوا أنفسهم ميرابو في ساحات الثورة الفرنسية. استثمرت الأدوات الممولة في التحريض والإعلام. يطيب لكوادر “التيار” أن يذكروا بالمحاولات الحوارية تجاه المنتفضين، والردود السلبية من قياداتهم. لكن كل ما يحصل اليوم، يعرّي هؤلاء ويفضح تقصيرهم وقلة حيلتهم، في الوقت الذي صنع فيه ميشال عون، وغادة عون التي هاجمتها الأحزاب وأدوات المنظومة، ما لم يستطع كل ضجيج “17 تشرين” أن يفعله…
هذه القاضية التي أنقذت شرف القضاء اللبناني، وقدمت مثلاً للقضاة الشباب في عدم مسايرة المنظومة والإبتعاد عن ثقافة تقديم “السيكار” للمتهمين، هي اليوم تُنصف إلى جانب الرئيس الذي أصر على تعيينها ودافع عنها حتى الرمق الأخير. لولا هذه القاضية لما شًقت أيضاً الطرق الموازية للتدقيق في متابعة طرق الأموال المهربة والمصارف السارقة أموال اللبنانيين، ولما كانت هناك حقائق ولا ملاحقة قضائية في الداخل والخارج للأداة المالية للمنظومة، الذي سقطت معه أقوى صورة تصنع لحاكم مصرف مركزي في العالم. وكان السقوط مريعاً…
الأخطر أن ميشال عون لم يتمكن من إثبات أن ما يشقه من طرق سياسية وتنفيذية، هو مكسب لجميع اللبنانيين فحسب. وهو على مشارف التسعينات من العمر، يمسح من عهده كل اللطخات التي رموه بها، في الوقت الذي يحق له وحده، دون سواه إلا تياره، القول للبنانيين إنني جعلت من بلدكم يمسك أهم الثروات في العالم، وأنني كرست سياسة عدم الإفلات من العقاب، في الوقت الذي لم تعرفوا فيه إلا ميليشيات تقتلكم وتعيدون انتخابها، وميليشيات مال تسرقكم ثم يبرئها قسم كبير من المضللين، يدين البريء ومن يرفع عنكم الظلم!