إعداد وتقديم : ماهين شيخاني .
هناك حكمة رافقتني منذ الطفولة كنت اكتبها على دفاتري المدرسية حيث تقول : قيمة الإنسان فيما يخلفه – وقيمة شعبنا بما يخلفه قادتنا وروادنا وأدباءنا وفنانينا , انتهز هذه الفرصة بمناسبة رحيل الفنان المخرج المبدع يلماز كونيه فيما خلفه من إبداعات وأعمال سينمائية وكتابية ألزم الضمير العالمي بتفهم قضيته – قضية شعب يعاني من ظلم واستبداد وحرمان من ابسط الحقوق الإنسانية – وهذه الأعمال نالت جوائز عديدة ورفعت اسم كاتب الرؤوس المحنية إلى الشموخ . لقد عاش يلماز كونيه 47 عاماً. قضى 11 منها في غياهب السجون، ونصف سنة في المنفى، وتشرد ثلاثة أعوام في ديار الغربة. لقد منحه القدر وقتاً قصيراً للإبداع، ومع ذلك كتب السيناريو لـ (53) فيلماً، ومثل في (110) أفلام، وأخرج (17) فيلماً، ونشر (4) روايات ومئات القصص. فكم كان بإمكان هذا الكاتب الإنسان أن يبدع، لو عاش أكثر؟!.
عاش يلماز في فترة الاضطرابات والصراعات الداخلية في تركيا. وبديهي أن تترك الأحداث، التي جرت في تلك الفترة، بصماتها على إبداع هذا الكاتب والمخرج والممثل السينمائي الكبير.
بدأ نشاطه الفني ممثلاً في السينما. أبطال أفلامه شخصيات درامية متنوعة؛ فبعضهم من المجتمع المخملي، وآخرون جبليون يمثلون دور الظرفاء الشجعان، الذين لا يمكن قهرهم.
في أواسط الستينيات، أصبح يلماز كونيه أكثر الممثلين شهرة. ففي عام 1967، ولأول مرة، تخصص في الإخراج السينمائي، وعُرض على الشاشة فيلمه “اسمي كريم”. أما فيلمه “سيد خان”، الذي أخرجه في عام 1968، فقد حمل إليه المجد. ناضل يلماز كونيه، ككاتب وسينمائي، ضد القوى المتخلفة، وسبح على الدوام ضد التيار؛ مع أنه كان في وسعه أن يعيش حياة عادية، مخرجاً أفلاماً، وواضعاً مؤلفات أدبية لا قيمة فنية لها، وتلقى – مع ذلك- إقبالاً ورواجاً لدى تجار السينما والمنشآت الثقافية، لكنه لم يفعل؛ لأن هدفه كان خدمة شعبه المحروم من أبسط حقوقه. لهذا حاولوا تحطيم إرادته، وحرموه من الحرية، على مراحل؛ ومع ذلك لم يفلحوا في كسر شوكته.
في عام 1974 ألقي بيلماز كونيه في غياهب السجن، وللمرة الثالثة، بتهمة ملفقة. وفي عام 1981 هرب من السجن،وغادر بلاده مهاجراً، بعيداً عن الوطن.
طفولته :
ولد يلماز حميد أوغلو بيوتون في الأول من نيسان1937 في قرية ينيجيه التابعة لأضنه من والدين فقيرين , التقيا في أضنة وتزوجا .
عمل والده – حميد بوتون- مديراً لمزرعة أحد الإقطاعيين , عمل يلماز مع والده في جنيه الفواكه وسقاية القطن وقطفه وعتالا وهو في سن الخامسة وهذه الفترة يعتبرها يلماز كونيه فترة سعيدة في حياته وصديق طفولته اسمه سلو ابن فلاح فقير كانا يلعبان مع أولاد الأغنياء لعبة العربة والخيول طبعاً كان يلماز وسلو الخيول وذات يوم ٍمرض سلو مرضا ًشديداً نقل على أثره إلى المركز الصحي البسيط فعاد سلو جثة هامدة على عربة يجرها حصان ومنذ ذلك الوقت رفض يلماز أن يكون حصاناً في لعبة أولاد الأغنياء…….
في سن السابعة تبدأ المأساة ومعاناة يلماز وشقيقته و والدتهما لأن الوالد قد تزوج من امرأة أخرى وتحول إلى رجل شديد فكم من ليلة قضاها يلماز مع والد ته وأخته تحت أشجار البستان وكم من مرة سافروا مشياً على الأقدام إلى أضنة التي تبعد 27 كم عن قريته وطول الطريق كانت الوالدة تبكي وتشدو كبلبل حزين فتكبر معاناة يلماز…….درس يلماز في ابتدائية القرية الصفوف الثلاثة الأولى ثم استقر في أضنة مع والد ته وثلاثة أخوة وأخت أخرى من أمه طبعاً أكمل دراسته الابتدائية والإعدادية في أضنة وفيها.عمل بائعا ًمتجولاً وبائعا ًلدى أحد البقاليات وأجير قصاب ثم عمل في شركة سينمائية عارضاً للأفلام و مصوراً للرحلات السياحية في القرى و بهذا كان ظهوره الأول في السينما عمل يلماز كل هذه الأعمال لكي يؤمن مصروفه و مصروف عائلته وهو طالب في الأول الثانوي. مارس يلماز اكثر من مهنة ليكسب قوة عيشه ومصروفا لدراسته حيث اكمل الثانوية و سجل في جامعة استنبول في كلية الاقتصاد (*) و في استنبول تبلورت مفاهيم كونيه الثورية و الذي كان بطبيعته الطبقية الثورية حيث يدل على ذلك رفضه الطفولي في مرحلة بسيطة من حياته لأشكال التعسف الاجتماعي ضد طبقته، و شعبه, حيث يدل اسمه جليا على ذلك , ف (يلماز ) يعني ( القاسي ) و لقبه كان بوتون لكنه أختار كونيه و تعني ( المسكين ).
وفي التحام القوة بالبساطة انطلق يلماز كونيه موهبة إبداعية وإصبعا ثوريا يشير إلى عيني عدوه في عزما لا يهاب، كسبباً لكل آلام شعبه وفقره واضطهاده. لهذا أحبته الجماهير وجعلته في أعلى القمم. وكانت صوره واسمه هي الأكثر ظهوراً في شوارع تركيا وبيوتها الفقيرة وفي صالات عرض الأفلام السينمائية وما أن وصل كونيه إلى استنبول حتى تحررت دمائه من عروقه ودبت فيه حركة أكثر توهجا فكان ورشة كاملة من العطاء. منها إصداره عام ١٩٥٨ مجلتين هما بوران ودوروك ويساهم في تحرير جريدة الحائط الجامعية، لكن ذلك لم يستمر طويلا ً ولأسباب معروفة دوماً. كتب قصته الأولى الأعناق الملوية ١٩٦١ وكانت محطة ليزج في إحدى السجون بتهمة (المثقف الأحمر).
الطريق
لم يكن السجن ليلماز جدران مغلقة بل عالم جديد من العمل واختراق الذات وانفعال الفكر والقهر والخيال والحب ليكتب من عالمه هذا أجمل سيمفونياته وأجمل ملاحمه فقد كتب رائعته (صالبا) عام ١٩٧٣ من سجن السليمة والتي طبعت داخل تركيا أكثر من سبع مرات وطبعت خارج تركيا بعدة لغات حيث طبعت في سوريا مرتين وكتب رواية (معادلات مع ثلاث غرباء) وكتب مئات القصائد والمقالات كما كتب سيناريوهات أكثر من فيلم داخل السجن وكان أكثرها شهرة فيلم (الرفيق القطيع وآخرها فيلم يول، الطريق).
انه ليحق لنا أن نسمي فن كونيه فن الحرية وليس بفن السجون لأنه كان يدرك حريته داخل السجن أكثر ما كان يحسها خارجه.
كان كونيه زائرا دائما للسجون ومنها كان يزداد عنادا أكثر في مواقفه ورؤيته للعالم وتصويرا لعلاقات مجتمعه. بدأ كونيه العمل السينمائي كعلاقة عمل يغطي مصاريفه الدراسية ولكنه رأى نفسه منغمسا في حب السينما لأنه كان أصلا مولعا بالشعر والقصة، وكان أول عمل له مع المخرج التركي التقدمي عاطف يلماز عام ١٩٥٨ ومنها بدأ يلماز يكتب ويمثل ويخرج حيث ظهر في أول عمل فني عام ١٩٥٨ في فيلم ( أبناء هذا الوطن .)
لم يكن عمل يلماز السينمائي سهلا رغم قوله (وبالفعل تحقق ذلك بسهولة لم أكن أتوقعها .)
إلا انه كان محاصراً من فاشية العسكر والرقيب لفكره وعمله وقد عمل يلماز في أولى حياته أفلام تجاريه فاقت المائة أصبح من خلالها البطل الأول في بال الجماهير والبطل الأكثر طلبا من منتجي الأفلام السينمائية فمن يتعاقد مع يلماز كونيه على فيلم فهذا يعني ربحا أكيدا ومن أفلام تلك المرحلة. النهر الأحمر، النعجة السوداء , القاتل الضحية , ملك الملوك… وغيرها ومن خلال ذلك تحققت ليلماز كونيه الأرضية القوية من الشهرة وشباك التذاكر والرأسمال الممكن ليستطيع أن يحقق ما يريد ويفرض نفسه على المنتجين.
وكان عام ١٩٦٦ تحولا كبيراً في حياة كونيه حيث ظهرت له أفلام من نوع جديد أرسى من خلالها مدرسة جديدة للسينما التركية والتي أخذت بعداً عالمياً وداخلياً وسرعان ما تأثر بها المنتجين المتخمين نتيجة طلبها من الجمهور فأخرج، سيد خان , الذئاب الجائعة , رجل قبيح , وكانت باكورة أعماله في تلك المرحلة فيلم (الأمل )الذي أوصل كونيه على جناحيه إلى أكبر المهرجانات العالمية حيث نال – ١٧ – جائزة على فيلمه وجذب إليه العيون والسمعة القوية بين فناني العالم.
كانت مقولة يلماز في تلك الفترة ( أنا لا أصنع سينما بل أكتفي ببيان الحياة الواقعية… لابد من إظهار الاستغلال الذي تتعرض له طبقتي ولصالح من …) وبدأت الجماهير من خلال شهرته تنظر إليه مخلصا ودليلا يخرجها من عالم البؤس والفاقة, كان كونيه يتألم لعفوية الوعي الجماهيري فهو أراد في أفلامه أن يقول…(هذا الواقع وهذه طبقاته وشرائحه وهؤلاء هم المسببين فشقوا الطريق, ومزقوا صدور ظالميكم بفؤوسكم ومطارقكم واصنعوا حياتكم وتاريخكم الجديد.)
وبما انه يسترشد بالماركسية كمبدأ ومنهج جمالي وفكري التزم به وسار على هديه، بدأ يخرج أفلام أكثر قوة وذلك بعد عام ١٩٧٢ حيث اخرج أفلام … (الآلام المرثية … غدا هو اليوم الآخر .. الأب.. ) ليدخل السجن من جديد ولكنه لم يتوقف عن العمل أبداً حيث ضربت إحدى أفلامه أرقاماً قياسية في إنجازها…أربعة عشر يوما … كان كونيه فكرا لا يتوقف وأحاسيس لا تنضب وجسدا لا يتعب فهو يريد الوصول إلى بغيته بأسرع وقت فاخرج ( القطيع ) ليقول القليل عن الكثير من قضايا شعبه الفقير في عالم محروم حتى من ذكر اسمه .. أتراك الجبال ..حيث رسم كونيه مأساة هذا الشعب المستمرة وفجرها على يد بيرفان عندما يخنق سمسار الخراف ليقول أن هذا الشعب عندما سينفجر سيجرف معه من يقف في وجهه ولن يفلت أحد من عدله ومن أصابعه. وفي فيلم …(يول ).ماذا أراد أن يقول كونيه أين الطريق .. أين السجن الحقيقي . هل هو السجن المحاط بالهراوات والأسلحة والأسلاك الشائكة أم هو هذا البلد الكبير المحاط بنقاط الحدود وبالبحار المسمى تركيا.
كان يلماز كونيه يعمل نهاراً، ويكتب ليلاً. أولى رواياته كانت بعنوان “الأعناق الملتوية”، ثم غير عنوانها إلى “ماتوا ورؤوسهم محنية”، وترجمت إلى اللغة الفرنسية، ومنها إلى اللغة العربية، تحت نفس هذا العنوان، كذلك ترجمت إلى اللغة الروسية تحت عنوان “الأرواح المُزهَقة”. في روايته هذه، يبني حواراته بمهارة خارقة، وفيها مسحة من الروح الفكاهة.