أخباركم – أخبارنا/ تحليل سياسي خاص
مسعود محمد
في مشهد غير مسبوق في التاريخ الحديث للشرق الأوسط، جلس الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على منصة واحدة في منتجع شرم الشيخ، لتوقيع اتفاق غزة الذي أنهى حربًا استمرت عامين، ويفتح صفحة جديدة من السلام في المنطقة.
وخلال مراسم التوقيع، قال ترامب في كلمةٍ أثارت الانتباه:
“لقد استغرقنا ثلاثة آلاف عام من التاريخ لنصل إلى هذه اللحظة، لكننا اليوم نوقع اتفاقًا سيصمد.”
كلماته تلك، التي رددها القاعة بالتصفيق، كانت بمثابة إعلانٍ رسمي عن ميلاد مرحلة جديدة من الشرق الأوسط السياسي، تجمع خصوم الأمس على مائدة واحدة.
فالسيسي، الذي مثّل محور “الاستقرار العربي”، وأردوغان، الذي كان أبرز داعمي حماس على مدى سنوات، وأمير قطر، الذي لعب دور الوسيط والممول في آنٍ معًا، جلسوا إلى جانب ترامب في مشهد يوصف بأنه “خريطة مصغّرة للشرق الأوسط الجديد” الذي يُراد له أن يولد من رحم غزة.
ووفق مصادر دبلوماسية في القاعة، فقد دار خلف الكواليس عمل مكثف بين الوفود الثلاثة لتثبيت الصيغة النهائية للاتفاق الذي يتضمن وقفاً دائماً لإطلاق النار، وتبادلاً شاملاً للأسرى، ونزعاً تدريجياً لسلاح حماس تحت إشراف دولي، وإطلاق خطة إعادة إعمار ضخمة بتمويل عربي ودولي.
ويرى مراقبون أن مشهد جلوس السيسي وأردوغان وتميم معاً لا يقلّ رمزية عن نص الاتفاق نفسه، فهو إعلانٌ عن نهاية مرحلة الاستقطاب الإقليمي، وبداية زمن المصالح المشتركة التي ترعاها واشنطن.
ويُعتقد أن ترامب أراد من خلال هذه القمة أن يكرّس نفسه “رجل السلام العالمي”، مستعيدًا أجواء اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة، لكن بطابع جديد، يقوم على دمج الفصائل الفلسطينية ضمن معادلة أمنية واقتصادية تُنهي منطق الحروب وتفتح الباب أمام “صفقة الإقليم الكبير”.
أما أوروبا، التي حضرت بتمثيلٍ رفيع، فاعتبرت في بيانٍ موحد أن “اتفاق شرم الشيخ يمثل لحظة مفصلية في مسار السلام”.
كلمة ترامب لم تكن مجرد استعارة بل تلخيصٌ لمسار الصراع اليهودي – العربي منذ العصور القديمة. فالإشارة إلى “ثلاثة آلاف عام” تعود إلى ما يعتبره اليهود بداية تاريخهم السياسي والديني منذ عهد الملوك داوود وسليمان في القدس، مرورًا بفترات السبي والشتات، ثم قيام دولة إسرائيل الحديثة عام 1948، وصولاً إلى لحظة شرم الشيخ 2025 التي يسعى فيها ترامب إلى تثبيت “سلامٍ نهائي” يمنح إسرائيل شرعية أمنية وجغرافية لا رجعة عنها.
وبذلك أراد ترامب أن يُقدّم اتفاق غزة بوصفه نقطة اكتمال لمسارٍ طويل من البحث عن الأمان اليهودي في الشرق الأوسط، لكنه في الوقت ذاته قدّم صيغة “سلام مشترك” لا تقتصر على إسرائيل بل تشمل الفلسطينيين والعرب الذين جلسوا معه على المنصة.
في المقابل، وصف مراقبون سياسيون تلك العبارة بأنها رسالة مزدوجة:
فهي من جهة إعلان لليهود أن “رحلتهم نحو الأمن انتهت”، ومن جهة أخرى إشارة إلى العرب والفلسطينيين بأن مرحلة الصراع انتهت فعليًا، وأن البديل هو “الاعتراف المتبادل في إطار شرق أوسطي جديد”.
تاريخيًا، تمثل لحظة شرم الشيخ استمرارًا لمسار بدأ من كامب ديفيد (1978) مرورًا بـ مدريد (1991) وأوسلو (1993) ووادي عربة (1994)، لكنها تختلف من حيث الجوهر لأنها المرة الأولى التي يُوقَّع فيها اتفاق يشمل غزة ويعترف ضمنيًا بـ حماس كطرف سياسي – أمني في التسوية، ولو بغطاء دولي.
وفي العمق، فإن حديث ترامب عن “3000 عام” يحمل بعدًا لاهوتيًا وسياسيًا في آنٍ واحد، إذ يُترجم الرؤية الإنجيلية – الصهيونية التي لطالما استندت إليها الإدارات الأميركية الجمهورية، لكنه أيضًا يقدّمها هذه المرة في قالب براغماتي: أمن إسرائيل مقابل إعادة إعمار غزة، وسلام إقليمي مقابل نزع سلاح حماس.
وبينما وقف السيسي وأردوغان وتميم إلى جانبه، كان المشهد يرمز إلى اندماج الخطوط المتناقضة في المنطقة تحت سقف التسوية الأميركية:
القاهرة تمثل الأمن والاستقرار، أنقرة تمثل النفوذ السني، والدوحة تمثل الوساطة والتمويل، فيما واشنطن تضمن التوازن بين الجميع.
وبذلك، تحوّل تصريح ترامب إلى خاتمة رمزية لصراعٍ عمره ثلاثة آلاف عام، أراد أن يختزله في لحظة توقيع واحدة قائلاً:
“هذا الاتفاق ليس سلامًا فحسب، إنه نهاية رحلة بدأت منذ أن حلم إبراهيم بالسلام.”
تحليل سياسيون اعتبروا أن تلك العبارة — رغم رمزيتها الدينية — تشي بأن واشنطن ترى في اتفاق غزة تتويجًا لرؤية كبرى: شرق أوسط بلا حروب، تُمسك فيه إسرائيل بزمام الأمن، والعرب بزمام الإعمار، وأميركا بزمام التوازن.
وهكذا، لم يكن توقيع شرم الشيخ مجرد حبرٍ على ورق، بل مشهدًا سياسيًا وتاريخيًا مكتمل الأبعاد:
رئيس أميركي يسعى للخلود في صفحات التاريخ، وثلاثة قادة يمثلون ضفّاتٍ متناقضة من العالم الإسلامي والعربي، يوقّعون اتفاقًا يقول ترامب إنه “احتاج 3000 عام كي يولد”، لكنه، كما يضيف أحد الدبلوماسيين العرب، “سيحتاج إلى شجاعة يومية كي يعيش.”



