الإثنين, نوفمبر 10, 2025
29.4 C
Beirut

بين الأب والرفيق… سيرة وطن.. لم نهزم مثلهم مستمرون بالنضال

نشرت في

أخباركم – أخبارنا

بقلم مسعود محمد

الشرق الأوسط الجديد… عالم يتشكل على أنقاض الخراب، تصنعه الشعوب بأوجاعها وتكتبه الإرادات الحرة بدمائها، في زمنٍ يُعاد فيه رسم الخرائط لا بالحبر بل بالتضحيات.

في زمن التغيير، وفي زمن الكلام عن الشرق الأوسط الكبير، أفكر بكبيرين مرّا في حياتي وكنت أناقشهما بود ومحبة كبيرة.

الأول أمي، صنعت علاقتي به وحبه الكبير لي، فأنا بكره وابنه ومسعوده وسعده. كان يحملني من سريري عندما يحضر آخر الليل من اجتماعاته وعمله، ويحضر لي قنينة الحليب ويعطيني إياها ويُنيمني بينه وبين أمي.

والثاني رفيقي وقائدي ورمزي وحبيبي جورج حاوي.

أبدأ بأبي، فهو معلمي الأول… وكأنه كان موقنًا أنه سيرحل يومًا ويتركني وحيدًا. كان والدي يقول لي: على الإنسان أن يكون قويًا، قادرًا على التعامل مع الظروف المختلفة المحيطة به.

بلحظة حماس كان يقول لي: «بتعرف يا ابني، إذا أنت قوي وبتتحمل، فيك تفك حبل المشنقة عن رقبتك».

لم يكن يقبل أنصاف الحلول، وكان يعلم أنه نقل تلك اللوثة لي، فكان يدربني على التعامل مع الأوضاع الصعبة. وكان يسألني متحديًا: «متى يعمل العقل بطاقته الكاملة؟»

كنت أقول له: «عندما يكون الإنسان مرتاحًا».

فكان يرد: «ما تكون غشيم، على الإنسان أن يشغل عقله بطاقته الكاملة عندما يكون داخل الأزمات وتحت الضغط الشديد، ففي تلك اللحظات أكثر ما تحتاج إليه هو العقل.»

كان يقول لي: «تتغير الأقنعة ولكن وجوه الطغاة لا تتغير».

وكان يسألني: «ما الفرق بين الكلب الأبيض والكلب الأسود؟»

فأقول له: «اللون فقط، أما الجوهر والمضمون فهما واحد».

فيقول: «وهذا هو حال الطغاة.»

وحين كنت أقول له إن هناك فرقًا بين صدام والأسد، كان يجيب: «نعم، إنه فرق اللون والقناع… كلب أبيض وكلب أسود، أما جوهر الدكتاتور فهو واحد.»

تدمر وسجنها

اسم سمعته أول مرة من أقرب الناس، عندما قال لي بتهكم إنه كان في فندق خمس نجوم: ليلٌ بردُهُ قارسٌ يدخل إلى العظم، ونهارٌ حرارته تليق بجهنم.

قال لي: «الداخل إليه مفقود، والناس فيه أرقام، والمحظوظ من يحتفظ باسمه داخل ذاكرته… إذا أردتم أن تعرفوا حكاية مجزرة سجن تدمر، فاسألوا كاتبها رفعت الأسد.»

كان يقول لي دائمًا: «ابتسم، فالابتسامة هي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة.»

كانوا ثلة من المناضلين ضمنهم أبي يسكنون المدينة كلها، بيروت بيتهم بشوارعها، أما سريرهم فكان صناديق من الخشب يفرشونها بما تيسر من أكياس الجنفيص المحشوة بأكياس الورق والكرتون في سوق الخضرة. كانوا يلتحفون السماء ويحلمون بالحرية وتأسيس الدولة.

كانت مخيمات البؤس في المسلخ وتل الزعتر ملجأ أمثالهم، وكانوا يستأجرون غرفة واحدة كل ثلاثة أشخاص. كان أجر الغرفة 15 ليرة يتقاسمونها. وكان في قمة سعادته عندما أصبح عنده سقف يستظل به.

أخذ هو ورفيقاه غرفة ينامون فيها بعد سنين من النوم في سوق الخضرة على صناديقها. يومها اشترى فرشة من الإسفنج ومخدة وحرامًا صوفيًا. أشعل بابور الجاز، سخن الماء، واستمتع لأول مرة بحمام دافئ قبل النوم. تمدد على فرشته، شعر بدفء البيت، ونام نومًا هنيئًا.

كان جارهم يملك راديو قديمًا، وكانوا يجتمعون حوله ليستمعوا إلى أخبار الثورة الكردية التي كانت تبث من يريفان. كانوا رافضين للظلم بالفطرة، ويقدسون الأفكار الثورية، وعندهم القدرة على العطاء إلى حد نكران الذات.

أهملوا أنفسهم وعائلاتهم ووجهوا كل إمكانياتهم نحو قضيتهم المقدسة. كان أحدهم يأخذ راتبه القليل ويتبرع به لصالح القضية دون أنانية. وكان يقول لزوجته: «أولاد الشهداء أولى بالقرش من ولدي، هم أمانة أودعها آباؤهم في ذمتنا.»

اعتراف

الحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة. لذلك قرأت وأقرأ منذ كنت ابن عشر سنوات، حين أهداني أبي رحمه الله أول مكتبة صغيرة صنعها من خشب صناديق الخضرة، دهنها ووضع فيها رفوفًا من الزجاج، ووصى عليها لتكون بقياس الكتب تمامًا.

رافقته إلى القزاز في كركول الدروز، وكان القزاز يخبئ صلعته بشعر مستعار تحت قبعة سوداء، وكان قلم رصاص صغير لا يفارق أذنه.

كما ذهبت معه إلى محل “دبوس” في كركول الدروز لنشتري المنشار الذي استعمله لصناعة المكتبة، واستشار النجار شيخ سليم، خلف بيت جدي، بنوع الدهان والورنيش الذي يجب استخدامه.

وضع أبي في تلك المكتبة أول مجموعة كتب يملكها وأهداني إياها، وكان من ضمنها نسخة من الإنجيل، وقال لي يومها إنه أحب المسيح لأنه نصير الفقراء ووزع عليهم الخبز والسمك، وأعجب بحكاية قيامته لأنها تجعله يرتاح إلى فكرة القيامة من جديد.

كان يكره فكرة يوم الحشر يوم يفر المرأ من أمه وأبيه ويقول لي: «يجب أن يقف الأب والأم على رأس أولادهم أمام الله، فهم نتاجهم ويحملون وزر تربيتهم.»

وعندما أصبحت يساريًا قال لي: «بدك تتعلم الاشتراكية؟ تعلمها من عيسى ابن مريم.»

من يومها أصبح السيد المسيح أيقونة الثورة في قلبي.

كان في المكتبة أيضًا كتاب عن سيرة النبي محمد ﷺ، وكان أبي يقول: «الأنبياء مضطهدون بين قومهم، لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح. انظر كيف فتح مكة وأي فتح عظيم! لقد دشن فتحه بالعفو، فالعفو عند المقدرة وحفظ مقامات الناس. من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.»

كان يقول لي: «اعفُ عند المقدرة واحفظ مقامات الناس، ولا تخطئ بحق عزيز فقد مقامه، بل احفظه له وتواضع أمام الناس، وانزل إلى تحت واخدم قضاياهم؛ كلما تواضعت رفعك الناس مقامًا. ليس المهم ما تملك، بل ما تعطي.»

لم يكن أبي مقتنعًا بإلغاء الآخر، وكان يقول: «كل مين الله يعينو على دينو.»

كان يحلم بصيغة تحفظ التنوع، ويحمي المختلف ويعامله بإنسانيته، تاركًا الدين لله، وجاعلًا العلاقة الإنسانية ميزانًا لعلاقات البشر.

لم أكن أخاف من التعبير عن نوازعي. المرة الوحيدة التي كتبت فيها مقالًا بجريدة النداء باسم «مسعود الخطيب» — سرقت الكنية من والدة رفيقي وسام حكيم — فبيت تلك السيدة كان مفتوحًا لنا، وفيه تعلمت ألف باء الإتيكيت، فهي كانت تعلمنا بالرقي وعلو الهمة، وكانت تريدنا الأفضل، ولها كل الحب حتى اليوم.

أحضر أبي الجريدة من المكتبة وقرأ المقال وتركها على الطاولة. عدت من المدرسة، شاهدت الجريدة، حملتها وفتحت على المقال، فسألني مباشرة: «المقال إلك؟» قلت: نعم.

سألني: «ليش مغير اسمك؟»

قلت له: «ما شايف المشاكل بالمدرسة». وكنت طالبًا في مدرسة الجماعة الإسلامية (الإيمان). كان أمري شبه مكشوف وكنت أقوم بعمل كبير ضد إسلامهم السياسي، وقد أصبح لنا فيها رفاق وخلية كبيرة أقضّت مضاجعهم. فقال لي: «إذا منك قد إنك تكتب اسمك على مقال مقتنع فيه، ما تكتب.»

وكانت آخر مرة لا أضع فيها اسمي على مقال.

أبو أنيس جورج حاوي

الشخصية الثانية كانت أبو أنيس جورج حاوي. كثيرون لم يكونوا يعلمون أن علاقة ربطت بين أبي وأبي أنيس. لم أعرف سرها قط، إلا أن من ضمن تلك العلاقة اتفاقًا بينهما بعدم رميي في العسكر؛ كان أبي يريدني للسياسة، وهكذا كان جورج أيضًا.

وعندما كنت أتمرد عليهما وأهرب نحو العسكر، كان جورج يوصي من يكون بجانبي أن يمنعني من التهور وكان في ثكنة الرميلة جلال وفي شرق صيدا وغيرها عبد الحجيري يتولان مهمة عدم تهوري.

قلت لجورج مرة: «ما فيني أكون مسؤول في أهم قطاع، قطاع الشباب، وما أعمل خدمتي الثورية يا رفيق.»

كان يهز رأسه موافقًا ويقوم بتنفيذ وعده لوالدي بعدم دفعي إلى المواقع الصعبة من دون حماية.

اختلف جورج مع رفاقه، فنظرته كانت واسعة. فهم أننا علينا العودة إلى الجذور، إلى لبنانيتنا، إلى حزب الشعب. تبنيت الفكرة في قطاع الشباب، واشتُبكنا سياسيًا داخل الحزب والقطاع.

كان رفاقنا المتشددون يسمون أنفسهم “الماركسيين”، وأصبحنا نحن “الإصلاحيين الانحرافيين”.

كنت أقول لرفاقي: «لا تخافوا، لنغيّر بكل قوانا، فالماركسية لا تقبل الجمود.»

كنت أستند إلى غرامشي ومهدي عامل، وكانوا يستندون إلى لينين على طريقتهم.

من مقولات غرامشي التي كنت أؤمن بها:

  • «العالم القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش.»
  • «التشاؤم بالعقل، والتفاؤل بالإرادة.»
  • «الثورة ليست فعلاً من أفعال العنف، بل هي أولاً بناء ثقافة جديدة.»

ومن فكر مهدي عامل الذي رافقني:

  • «التغيير لا يكون إلا بفكر جديد، يفتح آفاقًا جديدة لمعرفة الواقع وتغييره.»
  • «إن الفكر الثوري هو فكر نقدي في جوهره، لا يهادن الواقع بل يسعى إلى قلبه.»
  • «الحرية ليست حلمًا، إنها فعل وعي وتغيير.»

عندما انشق رفاقي وقرروا تأسيس “اليسار الديمقراطي” وأبلغوني أن اسمي سيكون في الهيئة التأسيسية، رفضت. قلت لهم: «أنا مع جورج، باقي في الحزب.»

كانت صدمة لهم. اعتقدت بإمكانية التغيير من الداخل، ولم أؤمن باليأس. كنت أظن أننا مع جورج سنجد طريقًا للتغيير. لم أكن أعلم أنهم سيقتلونه.

كان المطلوب أن يُشلّ الحزب ويخرج من اللعبة لصالح حزب الله وإيران، وكان جورج والحزب يخيفانهم، فقتلوه ليخرجوه من المعادلة، وبالتالي أخرجونا.

قررت البقاء في المعركة على طريقتي، دفاعًا عن دم أبي أنيس وقناعاتنا. فكتبت وعبّرت عن رأيي ومهرت مقالاتي باسمي كما أوصاني أبي.

اشتدت المعركة ولم أتراجع ولم أخف. كان أبي يقول: «بأشد لحظات الضعف، واجه عدوك بابتسامة، فابتسامتك ستربكه وتخيفه.»

وكان يقول: «يلي بيخاف، بيكسره الخوف.»

وكان يقول: «أن لا تخاف لا يعني أن تتهور؛ يجب أن تعيش لتواصل المعركة وتنتصر.»

وها نحن كل يوم ننتصر، وعدونا ينهزم.

أكتب هذا بمناسبة توقيع اتفاق شرم الشيخ الذي يضعنا أمام معضلة كبيرة في ظل هزيمة جُررنا إليها من قبل حزب الله وحماس.

وشهدنا كيف فُرض عليهما الاستسلام، وعليهما أن يدفعا ثمن عشرات آلاف الشهداء والضحايا الذين سقطوا وما زالوا مستمرين في غيّهم.

فحماس تريد الاستمرار في حكم غزة بالقوة والنار، وحزب الله يريد سلاحه لا لقتال إسرائيل كما يقول، بل ليحكم لبنان ويكرّس حجمه كما يدّعي.

نحن لم نهزم، فما زالت فكرتنا عن الصراع واضحة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها في فلسطين وكردستان وكل الشعوب المضطهدة في المنطقة يتبلور يومًا بعد يوم.

الصراع مع العدو يأخذ أشكالًا مختلفة، وعلينا أن نبلوره ونحدد أولوياته، وليس بالضرورة أن يكون تحت أيديولوجية ثابتة، فحتى الأيديولوجيات تتطور، وعلينا تطوير فكرنا بالمزيد من النقاش.

في فلسطين انتصرت إرادة الشعب بالبقاء على أرضه، فيما انهزمت حماس وإيديولوجيتها، وانهزمت إسرائيل التي تحولت إلى وجه استعماري، ولم تعد واحة الديمقراطية في الشرق.

أما في لبنان، فسيبقى لبنان، وسينهزمون ويرحلون، لأن الشعب اللبناني لم يعد يريدهم، وسيعود لبنان درة الشرق، فهو نقيض عنصرية إسرائيل.

سأبقى وفيًا لرفيقي جورج ولمعلمي أبو مسعود.

لن أخاف ولن أتراجع، فأنا أتغير وأُغيّر… هكذا علّمنا الديالكتيك.

فالديالكتيك يقول إن كل واقع يحمل في داخله نقيضه، وإن التناقض هو المحرك الدائم للتاريخ؛ فلا ثبات في الحياة ولا جمود في الفكرة، بل صيرورة مستمرة تُعيد إنتاج نفسها بالوعي والنقد والفعل.

يقول إن التغيير لا يولد من الرغبة، بل من الصراع بين القديم والجديد، بين ما يجب أن يزول وما يجب أن يُولد.

ويُعلّمنا أن الإنسان، حين يعي واقعه ويتسلّح بإرادته، يصبح هو نفسه أداة التحول، وأن الفكر بلا فعل وهم، كما أن الفعل بلا وعي عمى.

وهكذا… يبقى الديالكتيك وعدًا دائمًا بالتغيير، وبأن الغد لا يُصنع إلا بعقولٍ ترفض الركود وقلوبٍ لا تخشى النهوض.

شارك الخبر:

اضغط على مواقع التواصل ادناه لتتلقى كل اخبارنا

آخر الأخبار

إسرائيل تبني جدار إسمنتي خلف الخط الأزرق

أأخباركم - أخبارنا تقوم قوات اسرائيلية ببناء جدار اسمنتي خلف الخط الأزرق عند الحدود...

بلغاريا لن تسلم مالك السفينة المرتبطة بانفجار المرفأ وتطلب إلغاء عقوبة الإعدام

أخباركم - أخبارنا ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية "أ.ف.ب" بأن "القضاء البلغاري أرجأ النظر في...

مطر من الإمارات: التلاعب بحقّ المغترب فضيحة ويجب فتح صناديق الاقتراع في الخارج

أخباركم - أخبارنا كتب النائب ايهاب مطر عبر منصة "اكس":"خلال زيارتي لدولة الإمارات العربية المتحدة،...

الحجار امام وفد الخزانة الأميركية: لبنان ملتزم محاربة تبييض الأموال وتعزيز الأمن

ل أخباركم - أخبارنا استقبل وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار، في مكتبه، وفد وزارة الخزانة الأميركية،...

More like this

من “الإرهابي المطلوب” إلى “الرئيس المنفتح”: قراءة في التحوّل السوري الأكبر .. كيف يفسر غرامشي هذا التحول؟

أخباركم - أخبارنا/ مسعود محمد في السياسة، ليست الحقائق الثابتة هي التي تصنع الأحداث،...

هل سيقرّ مشروع قانون تعليق العمل بالمادة ١١٢ من قانون الانتخاب لصالح اقتراع المغتربين؟

أخباركم - أخبارنا د. وفيق ريحان توجد ثغرة في نص المادة ٥٨ من الدستور...