أخباركم – اخبارنا
تقرير فلسطين الميداني/ ريما يوسف
في غزة….. لم يكن ابناؤها يتخيّلون أن يعودون إليها والأرض مثقلةً بهذا القدر من الفقد؛ ثقل الركام والذاكرة والغياب. فحين انسحب الجيش الإسرائيلي من عددٍ من مناطق قطاع غزة، انكشفت الذاكرة فجأةً كما لو أن الإسمنت تخلّى عن صمته، لتظهر تحته الحكايات المدفونة. عاد الناس إلى ما تبقّى من أحيائهم، لا بحثًا عن حياة يمكن ترميمها، بل عن موتٍ لم يكتمل وداعه بعد. بأيديهم العارية يرفعون الحجارة، ينفضون الغبار عن الصور والملابس، يتشمّمون رائحة الموت لعلّها تهديهم إلى أثرٍ من أحبتهم. في غزة، صار الموت بداية الحكاية لا نهايتها.
خلال الأيام الماضية، أعلنت وزارة الصحة في غزة وصول أكثر من 650 جثمانًا من مناطق انسحب منها الجيش الإسرائيلي، كخان يونس والزيتون ونتساريم ومخيم جباليا. بعض هذه الرفات تعود لأشخاص فُقدوا منذ شهور، وآخرون كانت عائلاتهم تعتقد أنهم في الأسر قبل أن يتكشّف أنهم ظلّوا تحت الركام طوال هذا الوقت. لكن في غزة لا تُقاس المأساة بالأرقام؛ فكل جثمان يحمل حكاية انتظارٍ وأملٍ مكسور، ومدينةً تبحث عن وجوهها وسط الغبار.
في خان يونس، يروي محمد الرنتيسي قصة شقيقه الذي فُقد خلال مجاعة نيسان الماضي: “أصرّ أن يعود إلى بيتنا ليجلب شيئًا من الطعام رغم توسلاتنا. بعد ساعات انقطعت أخباره. بعد انسحاب الجيش، عدتُ إلى المكان، لم أتعرف على الشارع من كثرة الدمار، لكنني وجدت بقايا ملابسه تحت الركام… وجدت أخي كما تركته، لكنه لم يعد يسمعني”.
أما ليلى أبو عكر من حي الزيتون، فحملت وجع أمٍّ انتظرت ابنها شهورًا طويلة: “بحثت عنه في المستشفيات وعند الصليب الأحمر. بعد الانسحاب سلّموا جثثًا كثيرة. في المستشفى العربي وجدت قميصه ومعه بقايا جسده. كل ما بقي مني ومنه صار قطعة قماش أحملها”. ومن نتساريم، يتحدّث أحمد حامد عن لحظة التعرّف على والده: “فتحوا كيسًا أبيض بلا اسم، فرأيت البنطال الذي كان يلبسه أبي يوم اختفى. تمنّيت لو لم أعرف، فكل عائلة في غزة لها كيس أبيض تنتظره”.
من جهته، يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن ترك الجثامين دون توثيق أو دفنٍ لائق يُعدّ انتهاكًا صارخًا لحق الإنسان في الكرامة بعد موته، وجريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.
على أطراف المدن المهدّمة، تتكرّر المشاهد ذاتها: أمٌّ تمسك بقطعة قماشٍ مبلّلةٍ بالدم، أبٌ ينحني فوق بقايا عظام، طفلٌ يسأل عن أخيه الذي لم يعد. وبينما تُرفع الجثامين على النقالات، يهمس المسعفون بكلمات المواساة، ثم يعودون للبحث بصمتٍ يشبه الصلاة. في غزة، ما زال الناس يحفرون بين الركام والذاكرة، بحثًا عن آخر ما تبقّى لهم من حقٍّ إنساني: أن يعرفوا أين يرقد أحبّاؤهم.
من جهة ثانية، سلّمت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، جثامين أربعة أسرى إسرائيليين إلى طواقم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة غزة، في الدفعة الثانية من عملية التسليم، بعد أن سلّمت الإثنين الماضي جثث أربعة آخرين أعلنت إسرائيل لاحقًا التعرف على هوياتهم.
وفي المقابل، سلّمت إسرائيل جثامين 45 فلسطينيًا كانت تحتجزها، ووصلت إلى مجمع ناصر الطبي في خانيونس وسط إجراءات طبية لتوثيقها والتعرف إلى هويات أصحابها، في إطار صفقة التبادل الأخيرة بين حماس وتل أبيب.
لكنّ الاتفاق لم يدم طويلًا؛ إذ خرق الجيش الإسرائيلي وقف إطلاق النار بشنّ غارات على مناطق متفرقة من قطاع غزة، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد من الفلسطينيين، في أول خرق موثّق منذ بدء تنفيذ الصفقة.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي إلى 67,913 شهيدًا و170,134 مصابًا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأوضحت أن 44 شهيدًا (بينهم 38 انتُشلت جثامينهم) و29 مصابًا وصلوا إلى مستشفيات القطاع خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، فيما لا يزال عدد من الضحايا تحت الركام في ظل عجز فرق الإنقاذ عن الوصول إليهم.
وفي خان يونس، استُشهد المواطنان بكر أبو مور وصبحي المهموم، وأصيب آخرون في قصف لطائرة مسيّرة إسرائيلية استهدف بلدة الفخاري ومنطقة معن شرق المدينة. كما استُهدفت مناطق في الشجاعية وجباليا، ما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى، بينهم خمسة مدنيين شرق مدينة غزة أثناء تفقدهم منازلهم.
وأكدت وزارة الصحة أن طواقمها جاهزة لاستلام الجثامين التي يفرج عنها الاحتلال ضمن صفقات التبادل، مشيرة إلى أن فرق الطب الشرعي والإسعاف تعمل رغم النقص الحاد في المعدات والوقود، وفاءً لـ«كرامة الشهداء ورسالة الإنسانية».
على الصعيد الصحي، حذّرت منظمة الصحة العالمية من تدهور الأوضاع في غزة، معلنة أن أكثر من 15,600 مريض بحاجة إلى إجلاء طبي عاجل لتلقي العلاج خارج القطاع، وأن أكثر من 15 ألف شخص بُترت أطرافهم نتيجة الحرب. ودعت إلى إعادة فتح الممرات الطبية ومنع انهيار النظام الصحي بالكامل.
وفي موازاة الكارثة الإنسانية، قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بنحو 70 مليار دولار، موضحًا أن حجم الأنقاض يتجاوز 55 مليون طن، بينما أُزيل حتى الآن نحو 81 ألف طن فقط. وقال ممثل البرنامج جاكو سيليرز إن “حجم الدمار في غزة مروّع، لكن إرادة أهلها على الصمود وإعادة البناء لا تُصدق”، مؤكدًا أن المرحلة الأولى من الإعمار تحتاج إلى نحو 20 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وبينما تتحدث الأمم المتحدة عن “تعافٍ طويل الأمد”، ما زالت غزة تنزف بين جثث الأسرى وركام البيوت وخروقات الحرب التي لم تتوقف فعليًا، رغم كل ما كُتب من اتفاقات.
في سياق آخر، اقتحم وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال إيتمار بن غفير، صباح الثلاثاء، باحات المسجد الأقصى برفقة مجموعات من المستوطنين، تحت حراسة مشددة من قوات الاحتلال، في آخر أيام عيد العُرش اليهودي.
وذكرت دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس أن الاقتحام تم من جهة باب المغاربة بمشاركة شخصيات متطرفة، بينها بنتسي جوبشتن رئيس منظمة “لاهافا” اليمينية، والصحافي أرنون سيجال، حيث نفذوا جولات استفزازية في ساحات المسجد استمرت نحو نصف ساعة.
وبحسب المعطيات، بلغ عدد المستوطنين الذين اقتحموا الأقصى خلال عيد العُرش نحو 8 آلاف مستوطن، فيما اقتحم بن غفير المسجد مرتين خلال العيد، ليرتفع إجمالي عدد اقتحاماته إلى 11 مرة منذ السابع من أكتوبر 2023، و15 مرة منذ تشكيل الحكومة الحالية.
وأشارت مصادر مقدسية إلى أن عدد المقتحمين هذا العام ارتفع بنسبة 24% مقارنة بالأعوام السابقة، ما يُعد أكبر اقتحام في تاريخ الأعياد التوراتية، ويعكس تصاعد محاولات فرض واقع جديد في الأقصى.
وخلال أيام العيد، قيدت قوات الاحتلال دخول المصلين الفلسطينيين، ونصبت حواجز عسكرية، ومنعت حراس الأوقاف والمرابطين من أداء مهامهم، بينما أدى المستوطنون طقوسًا تلمودية داخل المسجد وفي محيطه، ورفعوا قرابين نباتية في البلدة القديمة.
ويُعد عيد العُرش الذي يستمر سبعة أيام، من أكثر المواسم التي تكثف خلالها الجماعات الاستيطانية اقتحاماتها للأقصى، بدعم مباشر من وزارات وجمعيات استيطانية وغطاء رسمي من حكومة الاحتلال.



