أخباركم – أخبارنا
مسعود محمد
السور المدنية هي التي نزلت بعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة المنوّرة، وتميّزت باحتوائها على الأحكام التفصيلية والتشريعات العملية التي نظّمت حياة المسلمين في مختلف المجالات. وقد جاءت بعد مرحلة المكي التي ركّزت على ترسيخ العقيدة والتوحيد، لتبني المجتمع والدولة على أسس الإيمان الصحيح. هذا البحث يتناول خصائص السور المدنية، وأهم الأحكام الشرعية التي وردت فيها، ومواطن الخلاف الفقهي، مع بيان طبيعة العلاقة بين التشريعات المكية والمدنية.
تعريف المكي والمدني
المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني هو ما نزل بعدها، سواء نزل في المدينة أو خارجها. هذا هو الضابط الزمني الذي اعتمده جمهور العلماء. وتكمن أهمية هذا التقسيم في معرفة أسباب النزول، وتمييز الناسخ والمنسوخ، وفهم التطور التشريعي.
عدد السور المدنية
اتفق العلماء على أن عدد سور القرآن الكريم 114 سورة، واختلفوا في تحديد عدد السور المدنية بدقة، إذ تراوح العدد بين 27 و29 سورة، بسبب وجود سور نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة، مثل سورة الحج والحديد والإنسان.
خصائص السور المدنية
- الطابع التشريعي التفصيلي.
- طول السور والآيات مقارنة بالمكي.
- الخطاب موجه للمؤمنين بعبارة “يا أيها الذين آمنوا”.
- تناول موضوعات المجتمع والأسرة والجهاد والمعاملات.
- الاهتمام بتنظيم العلاقات مع أهل الكتاب والمنافقين.
العلاقة بين المكي والمدني
مرحلة مكة كانت لبناء الإيمان، ومرحلة المدينة كانت لتطبيق التشريع. فالمكي أصل الاعتقاد، والمدني تفصيل الأحكام. وما يبدو أنه تشدد في المدني هو في الحقيقة انتقال من الإيمان إلى التطبيق العملي، ضمن تدرج تشريعي حكيم.
أسباب الاختلاف في أحكام السور المدنية
- الناسخ والمنسوخ: المدني ينسخ بعض المكي لتطور التشريع.
- العام والخاص، والمطلق والمقيد.
- المجمل والمبيّن.
- تعدد الروايات في أسباب النزول.
- اختلاف الفهم والاستنباط بين المذاهب الفقهية.
أبرز الأحكام الشرعية في السور المدنية ومواضع الخلاف
سورة البقرة
تضمنت أحكام الصيام، والحج، والقصاص، والربا، وآية الدين، والزواج والطلاق والعدة والرضاعة والإيلاء.
أهم الخلافات: ثبوت الهلال بالرؤية أو الحساب، أحكام الإيلاء، اشتراط الكتابة والإشهاد في الدين، ومعاملات الربا المعاصرة.
سورة آل عمران
اشتملت على أحكام الإنفاق، والحج، ومجادلة أهل الكتاب.
الخلاف في مدى استقلال فرض الحج فيها أو تأكيده لما في البقرة.
سورة النساء
تضمنت أحكام الميراث، واليتامى، والنكاح، والقوامة، والقتل الخطأ، وصلاة الخوف.
الخلاف في القوامة ومعنى الضرب غير المبرح، وفي مسائل الميراث، والولي في النكاح، والدية، وكيفيات صلاة الخوف.
سورة المائدة
اشتملت على الطهارة، والذبائح، والوفاء بالعقود، والزواج من الكتابيات، والحدود، وتحريم الخمر، وكفارات الأيمان.
الخلاف في نصاب السرقة، وحدّ الحرابة، وزواج الكتابية، والتيمم، والمسح على الخفين.
سورة الأنفال
فيها أحكام الغنائم والخُمُس وأسرى الحرب.
الخلاف في مصرف الخُمُس بعد وفاة النبي ﷺ، وفي معاملة الأسرى بين المنّ والفداء والقتل.
سورة التوبة
تضمنت أحكام الجهاد، والعهود، والجزية، والزكاة ومصارفها.
الخلاف في حدود قتال الطلب والدفاع، وفي استمرار سهم المؤلفة قلوبهم، وأحكام الجزية في العصور اللاحقة.
سورة النور
تضمنت حد الزنا، وحد القذف، واللعان، وآداب الاستئذان والحجاب.
الخلاف في شروط ثبوت الزنا، وأحكام اللعان، وسقوط حد القذف بالتوبة.
سورة الأحزاب
اشتملت على أحكام التبني، والحجاب، وآداب البيت النبوي.
الخلاف في مدى دلالة آية الجلباب على ستر الوجه والكفين.
سورة محمد
تناولت فقه القتال ومعاملة الأسرى.
الخلاف في التفريق بين الأسرى النظاميين وغير النظاميين.
سورة الفتح
تناولت أحكام الصلح والهدنة والبيعة.
الخلاف في مدة الهدنة وشروطها ومتى تُنقض.
سورة الحجرات
تضمنت آداب التثبت من الأخبار، وإصلاح ذات البين، وتحريم الغيبة والسخرية.
الخلاف في حجية خبر الواحد الفاسق بعد التثبت.
سورة الحديد
حضت على الإنفاق والرباط والزهد.
الخلاف في تحديد المدني منها وتأثيره في فقه الإنفاق.
سورة المجادلة
تضمنت حكم الظهار وكفارته وآداب المجلس والنجوى.
الخلاف في ترتيب الكفارة وحالات العجز عنها.
سورة الحشر
اشتملت على أحكام الفيء ومصارفه وتنظيم العلاقات بين المهاجرين والأنصار.
الخلاف في التمييز بين الفيء والغنيمة وتوزيعهما.
سورة الممتحنة
تضمنت أحكام الولاء والبراء، واختبار المؤمنات، والأنكحة بين المسلمين والمشركين.
الخلاف في فسخ نكاح المسلمة إذا لم يُسلم زوجها.
سورة الصف
حضت على الصدق في الجهاد والعمل الجماعي المنظم، ولا خلاف فقهي كبير فيها.
سورة الجمعة
فرضت صلاة الجمعة وأحكام الخطبة والبيع وقت النداء.
الخلاف في شروط الانعقاد وعدد الخطبتين وجواز تعدد الجمعة في البلد الواحد.
سورة المنافقون
تناولت أحكام النفاق والتحذير من أثره، ولا خلاف فقهي عملي فيها.
سورة التغابن
تناولت الإنفاق وحقوق الأسرة.
الخلاف فيها توجيهي عام لا تشريعي.
سورة الطلاق
فصّلت أحكام الطلاق والعدة والسكنى والنفقة.
الخلاف في الطلاق البدعي، وسكنى المطلقة البائن، وعدة النساء بالأطهار أو الأقراء.
سورة التحريم
بيّنت حكم تحريم الحلال على النفس وآداب البيوت.
الخلاف فيمن حرّم على نفسه المباح: هل تلزمه كفارة يمين أم نذر؟ والجمهور على كفارة يمين.
العلاقة بين المدني والمكي في التشريع
لا يوجد تناقض بين المكي والمدني، بل هو تدرج تشريعي من الدعوة إلى التطبيق. المدني أتى ليفصل ما أجمله المكي، ويكمل ما بدأ في مكة. فالمدني نسخ بعض الأحكام المكية عند تغير الحال، وخصص بعضها، وبيّن تفصيلاتها، وهو بذلك أظهر كمال الشريعة واتساقها.
الحكمة من اختلاف الأسلوب بين المكي والمدني
- المكي يرسخ العقيدة والإيمان قبل فرض الأحكام.
- المدني يطبّق الشريعة بعد استعداد الأمة.
- التدرج يحقق مصلحة العباد، ويمنع المشقة الفجائية.
- يظهر مرونة الشريعة في الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
رفع التوهم عن “تشدد” المدني
السور المدنية ليست متشددة، بل أكثر إلزامًا وانضباطًا لأن المرحلة المدنية كانت مرحلة دولة تحتاج إلى قوانين. فالتشديد الظاهري هو في الحقيقة عدلٌ وتنظيم، وليس تضييقًا. وقد جاءت تشريعاتها رحمةً بالمجتمع، لحفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل.
ضوابط فهم الاختلاف
- الجمع بين النصوص أولى من ادعاء التعارض.
- الرجوع إلى أسباب النزول وسياقها الزمني.
- معرفة الناسخ والمنسوخ.
- اعتبار المقاصد الكبرى للشريعة.
- الرجوع إلى السنة الصحيحة لتفسير الأحكام القرآنية.
النتائج
- السور المدنية تمثل المرحلة التشريعية الكبرى في الإسلام.
- لا تعارض بينها وبين المكي، وإنما تكامل زمني وتشريعي.
- ما يبدو تشددًا هو اكتمال التطبيق بعد تمام الإيمان.
- الخلافات الفقهية في المدني اجتهادية معتبرة وليست اضطرابًا تشريعيًا.
- النظام المدني في القرآن جمع بين العدل والرحمة، فكان الأساس لدولة الإسلام الأولى.
المصادر
- الزركشي، البرهان في علوم القرآن
- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن
- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن
- ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير
- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن
- ابن العربي، أحكام القرآن
- الجصاص، أحكام القرآن
- الشاطبي، الموافقات
- ابن عاشور، التحرير والتنوير
- الطبري، جامع البيان



