كتب ميشال ن. أبونجم:
ما رُمي به التيار الوطني الحر منذ بدايات “17 تشرين” لجهة أنه لم يجرِ مراجعات لتجربته في الحكم والعلاقات مع القوى السياسية ومن بينها حلفاؤه، غافلة عن الواقع. في التجربة والخطاب والواقع العملاني السياسي، ما يُفصح عن تغيرات نتيجة لهذه المراجعة العميقة، ولو الهادئة، التي استخلصها “التيار” وقيادته بعد مسار “العودة” الطويل إلى المشاركة في النظام، وحتى لو من باب المشاكسة…
ليس وهماً أو إسقاطاً تكرار أن تجربة العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله، هي الأكثر مفارقة في تاريخ العلاقات السياسية اللبنانية. عادة صيغة التجمعات والصيغ الجبهوية السياسية بين متماثلين في الإنتماء الطائفي أو السياسي أو الإيديولوجي، أو لتقاطعات سياسية مصلحية عابرة، من “الجبهة الإشتراكية الوطنية” إلى “الحلف الثلاثي” المسيحي الماروني في مقابل الشهابية، إلى الإنقسام الأعماق الذي مهّد وواكب الحرب بين “الجبهة اللبنانية” و”الحركة الوطنية”. لم يحدث في هذا التاريخ اللبناني القصير تفاهمٌ بين قوتين بالغتي الإختلاف إيديولوجياً وفي التصورات تجاه لبنان، وحتى يصمد كل هذه الفترة، على الرغم من كل “المطبات” الخطِرة التي مرّ بها لبنان. لكن هذا الصمود المتين، توازى مع بداية تصدعات، أدت إلى إعادة النظر، خاصة من جهة “التيار”.
لا يعني ذلك أن العونيين هم من بادروا إلى إشهار ألمهم مما آلت إليه الأوضاع. في الشكل قد يبدو الحال كذلك، لكن بالنسبة إليهم، حزب الله هو من بادر إلى الفعل، فسكتوا على الجرح إلى أن بات صعباً على الإلتئام والإخفاء.
عملياً، ما هو التفاهم وعلام بُني؟ بعيداً من كل الأسباب والتشابهات وحتى المصالح التي أوصلت إليه والتي أشبع الكلام عنها في الإعلام اللبناني لا بل في الدراسات خارج لبنان، ارتكز التفاهم على التوافق على مجموعة من القضايا الوطنية المصيرية في مقاربة العلاقة مع المحيط والعدو الإسرائيلي في مرحلة ما بعد 2005، واستطراداً العمل على منع الإنزلاق إلى اقتتال داخلي. وهذا ما يمكن القول إن الطرفين نجحا فيه، إلى حدٍ تعرض فيه “التيار” وجبران باسيل إلى أقسى التهديدات والعقوبات، من دون أن يتراجع قيد أنملة عن القناعة بعدم الدخول في صراع دموي، يستفيد منه الخارج ويكون الوقود لبنان والمسيحيون.
الركيزة الثانية للتفاهم، والعزيزة على “التيار” ومؤسسه الذي أتى من تراثٍ وخطاب “جمهوريين”، هو الدولة وبناؤها. المسألة ليست كلاماً أو خطاباً إنشائياً بالنسبة للتيار. هي تعبير عن لا قناعة فحسب بل عن فكر ووجدان جماعة وشرائح وطنية واسعة، ليست الدولة ملاذها بل “إلهها” الحامي، بالمعنى الذي عبّر عنه لويس الرابع عشر في محورية الدولة كناظمة للعلاقات بين المجتمعات ووسيلةً لتقدمه ورخائه وتحقيق قيم العدل والمساواة.
هذا الباب كان موصداً لدى “الحزب”. أسباب عميقة لا سياسية فحسب بل تربطها بعض النخب بعلاقة المجتمعات الشيعية العربية تحديداً، بمسألة الدولة التي أقصيوا عنها ولم يشاركوا بها إلا بعد حروب دامية من الإقتتال اللبناني، وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق. والتجربة السياسية في المشاركة في إدارة هذه الدولة، لم تكن مشجعة أبداً كما أكد ذلك لا خصوم هذه التجربة بل نخب شيعية على المستويات السياسية والفكرية والإعلامية كافةً.
السبب الظاهري مرتبط بالعلاقة مع الطرف الثاني للشيعية السياسية. لا مجال للمفاضلة بين بناء الدولة ورئيس حركة “أمل”. حقيقة تلمسها “التيار” منذ بدء الإشتباك “الميداني” على الكهرباء وتحريك المياومين على باب وزارة “الطاقة”. طال الصبرُ إلى أن تحققت جملة من الإنجازات المشتركة، في طليعتها تمرير حرب “17 تشرين” على الطرفين وطي صفحة المواجهة مع الولايات المتحدة على الغاز وأمن الطاقة من لبنان إلى أوروبا، وبات الباب مفتوحاً للأسئلة العونية، وتنفيذ المراجعة العميقة على أرض الواقع.
لس سراً ما تبع ذلك. فجبران باسيل ورث عن ميشال عون ميزة التعبير في ما يقوله عمّا اختمر أساساً في تجربة قاعدته وذهنها. تحولت العلاقة عميقاً في ما يشبه مراجعة تجربة الرئاسة وبالتالي التركيز على بناء الحكم وفق زوايا مختلفة، أقرب إلى القاعدة وما يلي السلطات “من فوق”. تقسّمت الملفات وتجزأت العلاقة. ما للوحدة الوطنية وللحفاظ على قوة المقاومة في بعدها الدفاعي، وما لملفات اللامركزية التنموية والصندوق السيادي بما يعبّران عن تغيير عملي في الإدارة المالية للدولة. باتت العلاقة أقرب إلى “القطعة” منها وانتهى “الزواج الماروني”، كما أن “الدفع” بات مسبقاً. عمق الخلل أوصل إلى رفع مطالب “التيار” ورفعها بهذه الطريقة. كما أن التجزئة ارتبطت بالتعاطي مع ملف الرئاسة، عدا الصدام الكبير حول اسم سليمان فرنجية، لا بل انسحبت على التعاطي اللبناني ككل من خلال صياغة مفهوم “التفاطع”، الذي بات أخف ثقلاً، وأكثر ربحيةً سياسياً.
المراقبون لم ينسوا أن تجزئة الملفات، انسحبت أيضاً على التفاوض مع هوكشتاين حول الغاز والترسيم، بين “ما فوق” و”ما تحت” المياه… هناك ما تحرّك وتغيّر، في التجرمة العملية، لا في الثوابت…