كتب ابراهيم بيرم: ثمة استنتاج راسخ في وجدان راصدين كثر، جوهره انه عندما ذهب كل من (ا ل ح ز ب) والتيار الوطني الحر في مطلع شباط من عام 2006 الى ابرام تفاهم سياسي مفاجىء بكل المعايير بينهما في كنيسة مار مخايل، لم تكن رحلتهما تلك رحلة الواعي المنطلق الى فعلته عن قناعة عميقة وتمحيص دقيق للابعاد واستشراف للنتائج المرتقبة، بل انها من النوع الذي ينطبق عليه في القاموس السياسي مصطلح “تفاهم الضرورة”.
إن كلا الطرفين كان مقيماً في تلك اللحظة التاريخية على شعور هو مزيج من المرارة والخيبة والخديعة.
اذ من المعلوم يومها ان (ا ل ح ز ب) كان طرد لتوّه من “الحلف الرباعي” الذي جمعه في انتخابات عام 2005 مع تيار المستقبل وحركة “امل” والحزب التقدمي الاشتراكي، وهو الحلف الذي لاذ به (ا ل ح ز ب) لتلافي تداعيات الزلزال الذي نجم عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فيما شاءه المستقبل والتقدمي جسر عبور الى الاكثرية النيابية التي تؤمن له القبض على الحكومة والسلطة عموماً.
وفي الوقت عينه، كان التيار البرتقالي يقاسي ايضاً شعوراً بالتهميش والاقصاء، لأن شركاؤه في “انتفاضة 14 اذار” انكروه على رغم اكتساحه للمقاعد المسيحية في الجبل وفوزه بالحصة الاوزن مسيحياً.
وعليه، ثمة من اعتبر ان تفاهم مار مخايل هو بمعنى آخر “تفاهم المقصيين والمهمشين والمطرودين”.
وبناء على كل هذه الاعتبارات، لم يكن هذان الاطارن السياسيان الوازنان، كل في شارعه، يضعان في حساباتهما وتنبؤاتهما ان هذا التفاهم الوليد على عجل:
– سيصمد طوال هذه الفترة القياسية (نحو 17 عاماً) اذ لم يشهد تاريخ التحالفات والتفاهمات السياسية في لبنان الكيان اي تجربة شراكة مماثلة تدوم تلك السنوات بين اطارين على هذا القدر من التباينات.
– كما لم يكن لديهما وهم بأن هذا التفاهم سيرقى الى مرتبة تحالف اكثر نضوجاً ووعياً، ويضع في قائمة اهدافه او مسوغات استمراره قضايا على هذا القدر من الحساسية والتعقيد.
وتجسدت ذروة الضوء في مسار هذا التفاهم في تأمين وصول مؤسس التيار العماد ميشال عون الى سدة الرئاسة الاولى عام 2016.
فبدا وكأنه نصر نادر لهذا التحالف ما لبث ان انفتحت بعدها ابواب الجحيم عليه، وتجندت قوى بهدف اسقاطه وتفريغه من مضامينه خصوصا ان ثمة من وجد فيه مشروع “عصب حكم” افتقده لبنان منذ سقوط “تجربة حكم المارونية السياسية” التي كانت رافعة الكيان و”عصب الحكم” منذ تأسيس الكيان في عام 1920 .
وهكذا توالت السهام على هذا التفاهم من داخل كل المحاور السياسية في البلاد، ولا سيما من الشارع المسيحي الذي تولى “شيطنة ” عهد الرئيس عون.
وكان حراك 17 تشرين الذروة والقشة التي قصمت ظهر العهد والتفاهم الذي بدأ بعدها يترنح خصوصاً بعد ان افصح التيار عن شعور بأنه “مستفرد” وباأن شريكه انكفأ عندما كان يفترض ان يشارك بالدفاع والذود.
وعلى رغم ذلك ظل التيار يعض “على جرحه” وعلى “استيائه المكتوم” الى ان انقضت الانتخابات الاخيرة حيث استفاد من دعم (ا ل ح ز ب) لمرشحيه في العديد من الدوائر الانتخابية مما امن له وفق زعم (ا ل ح ز ب) ما لايقل عن 7 نواب.
ولم يطل بعدها الوقت لينقلب التيار وفق (ا ل ح ز ب) على موجبات التفاهم القديم .اذ استشعر (ا ل ح ز ب) بعدها ان الشريك في التفاهم عازم على التحلل من متطلبات هذا التفاهم، اعتقاداً منه انه “تحالف” يعود بالخسارة عليه، وان السلامة والتعويض عن تلك الخسائر لا يكونان الا بالشروع في رحلة ابتعاد عن (ا ل ح ز ب) لبلوغ مرحلة القطيعة معه اذا اقتضى الامر.
هكذا، فجأة افتقد (ا ل ح ز ب) شريكه في معركة الاستحقاق الرئاسي التي هي بالنسبة اليه معركة وجود، وخصوصاً عندما جاهر التيار باعتراض صريح على مرشح (ا ل ح ز ب) للمنصب الشاغر بخروج عون من قصر بعبدا، وهو سليمان فرنجية. ولاحقاً ذهب التيار بعيداً في رحلة الافتراق عن (ا ل ح ز ب) عندما بادر رئيسه جبران باسيل الى “التقاطع” مع خصوم (ا ل ح ز ب) لحظة منح اصوات تكتله لمرشحهم جهاد ازعور في جلسة 14 حزيران الماضي.
الى تلك المحطة، بدا أن الافتراق تحقق بانتفاء مبرراته عند طرفيه، وشرع كل منهما في رحلة البحث عن الخيارات البديلة .
واذا كان امر الافتراق والتباعد صار معلوماً، فان الغارق في الالتباس لحد اليوم، هو الذي دفع التيار الى وصل ما انقطع مع (ا ل ح ز ب) ومعاودة الحوار معه بعدما بدا ان الافتراق صار محققاً؟
في المقابل، ما الذي دفع (ا ل ح ز ب) الى فتح ابوابه مع التيار بعد ان بادر رئيسه جبران باسيل الى الحاق الاذية الشخصية بسيد (ا ل ح ز ب) السيد حسن نصرالله عندما وصمه بـ “عدم الوفاء بالوعود والعهود”، الى غير ذلك من الاتهامات المتتالية؟
بغض النظر عن المآلات المرتجاة من هذا المسار الحواري المنطلق لتوه، وهو مدار تكهنات وتأويلات، فان ثمة من يقدر ان الظروف والدوافع التي املت على الطرفين في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط عام 2005، يبدو ان التاريخ يعيد نفسه عبر وقائع وظروف مختلفة بعضها مستجد وبعضها الآخر قديم، تملي عليهما معا البحث مجدداً عن افق تجربة شراكة سياسية مماثلة، علماً ان ثمة من يرى ان الامر هذه المرة لا يعدو كونه ” تمثيلية” مشتركة اعدت لهدف محدود وزمن معدود.
فـ (ا ل ح ز ب) وجد نفسه وقد “تعرى” سياسياً من جراء فقدانه غطاء مسيحياً، معتبرا أنه كان يوفره تفاهمه مع التيار ، في حين ان التيار ايضاً وجد نفسه ابان “الانفصال” بحاجة الى استنساخ تجربة الشراكة والتفاهم، لأنه من دونها وجد نفسه يفقد ميزة وفرادة سياسية لا تتوفر له، خصوصاً انه اعتمد خطاباً سبق ان اعتمده سواه قبل عقود واعتبروه ماركة مسجلة لهم. فضلاً عن التجربة السابقة، وجدت بين نخب التيار من اعتمدها وتمسك بها وهو يجاهر الان بأنه يعارض بشدة الخروج منها.
وعليه، يبدو جليا ان المرحلة والمصلحة عند الطرفين تستأهل منهما استنساخ تلك التجربة المنتهية الصلاحية والمفعول بتجربة اخرى حتى وان كان التيار تعمّد وضع قواعد معقدة وشروط صعبة، واستطراداً حتى وان كان (ا ل ح ز ب) يعرف ايضاً سلفاً الحجم الكبير للاثمان الباهظة التي يتعيّن عليه دفعها، وهو يندفع هذه المرة لولوج هذا المسار الحواري المحفوف بالمخاطر وباللايقين.