كتب ميشال ن. أبو نجم: لطالما كانت زحلة محورية في سلوك القوى المسيحية اللبنانية. تنوعها الإجتماعي وموقعها الجغرافي بين الجبل والسهل المفتوح على الجوار العربي والإسلامي، يحوّلانها إلى مختبر للحراك السياسي اللبناني، وإلى أن ينعكس ما يحصل في ما وراء صنين عليها. تهتزُ بيروت فتتفاعل. وقد يكون من غير المبالغة القول إن لا شرعية للتمثيل المسيحي واللبناني من دونها. هي التي شكَّلت معبراً أساسياً لوصول بشير الجميل إلى الرئاسة بعد حرب 1981، وهي التي صنعت الإنقلابات الشاملة في التمثيل السياسي، من اكتساح ميشال عون الشارع المسيحي في العام 2005 إلى التحول نحو 14 آذار في الـ2009، كما أن التفاهم العوني – القواتي في مطلع وصول عون للرئاسة تُرجم تحالفاً صنع البلدية الحالية.
زحلة هذه بأبعادها بقيت في عقلِ الجنرال ووجدانه. هي المدينة الوحيدة التي خصّصها بزيارات ثلاثة بين 2010، و2012 و2103. وفي كل محطة، كانت له رسائله الوطنية المرتبطة باللحظة، من استعادة التمثيل وتكريس حيثية تياره المستقلة في المدينة، إلى التحذير من مخاطر النزوح السوري، وصولاً إلى حوارات آنذاك مع شرائح زحلية مختلفة، تربوية ونقابية واقتصادية، إلى سُنية معارضة!
والإهتمام العوني الذي تكرّس بالعمل على تأمين الطريق الإستراتيجية من ترشيش إلى بيروت عبر مشروع لتطويرها لم يبصر النور بسبب التعقيدات المالية، انتقل إلى جبران باسيل الذي جسّد تفكيره من خلال العمل على الإنماء والتفكير بالإستنهاض الإقتصادي والسياحي للمدينة. يعرِف جيداً باسيل تعقيدات المدينة وتشابكاتها، فضلاً عن إدراكه صراعات تياره الداخلية التي استنزفت التنظيم في فترات سابقة، من دون أن تؤثر على تماسك “النواة الصلبة” التي ثبّتت أقدامَها في أشرسِ حربٍ خيضت لإلغائه.
ومن يعرف جيداً نسيج التيار الوطني الحر ودوافع سلوكياته، يعرف أنه الظروف الصعبة تمنحه الفرصة لإثبات طاقاته. حاله هذه كحال باسيل الرافض للإستسلام. والظروف السياسية، تتغير وتتبدل. في العام 2022 انفضت عنه الشخصيات مبتعدة عن الترشح على لائحته، لكنها في العام 2018 كانت تتسابق على الصعود في قطار العهد قبل أن تنزلَ منه.
وحالُ الأحزاب، ليست كحال الشخصيات المنفردة. الأولى شاملة التمثيل ولديها برنامجها ورؤيتها، الأشخاص عاجزون مهما كَبُرت إمكانياتهم الفردية. وانطلاقاً من ذلك، استعد “التيار” في زحلة لحركة استعادة المبادرة، التي ترافقت مع تعيين هيئة قضاء جديدة تجمعُ بين جيلَي الشباب والمخضرمين.
الخروقات التي صنعها باسيل في زيارته الأخيرة برزت في أصدائها المدوية في شوارع المدينة وأزقتها. وبداية الخروقات كانت من خلال مأدبة الإفطار عند سيزار المعلوف. الجميع يعرف محبة المعلوف للجنرال عون، وماذا حصل في انتخابات العام 2018 وصولاً إلى الإفتراق. هذا لم يمنع استعادة التواصل في شكل هادئ ودؤوب. والخروقات استُكملت في زيارة الإعتراف بالتمثيل السياسي للعائلات الزحلية بداية مما يمثل إرث الياس سكاف، وصولاً إلى آل فتوش، واللذين تواصل “التيار” معهما في ال2022 لبحث سبل التعاون. وهذا ما عكسه باسيل في خطابه في عشاء “التيار” ليل السبت، عندما جدد التمسك باحترام التمثيل وبالتالي الوقوف عند عتبة عدم إقفال البيوت. سبق لميشال عون أن كرّس هذه السياسة منذ العام 2005.
التطلّع الإقتصادي لباسيل له قيمته الحالية نظراً لما يطرحه من عناوين لإدارة المرحلة المقبلة مالياً واقتصادياً، تحديداً في ملفّي اللامركزية والصندوق الإئتماني. وفي مشروع “متروبول” بقاعيّ كزحلة، لا بد من التحاور مع الهيئات الصناعية والتجارية والزراعية، في لقاء في “بارك أوتيل” – شتورا، عكس تطلّع الحضور، المتنوّع سياسياً وطائفياً، للإستفادة من تجربة باسيل في تنمية البترون سياحياً، ومحاولة سبر أغوار مقاربته للصندوق الإئتماني وكيفية تثمير اللامركزية في الإنماء.
الخرق الحقيقي، دافعه أنَّ باسيل يمتلك ما لا يمتلكه خصومه، فضلاً عن دعوته لهم للمنافسة الإيجابية. الرؤية التنموية السياحية، وتشجيعه لا بل تلهفه الزائد للأفكار المتجددة، صنعت من “سوق البلاط” الأثري والعريق في المدينة مادة لتهافت “القوات اللبنانية” على منافسة “التيار” في مبادرته منذ أشهر لطرح ترميمه، لا بل بروز غيظ “قواتي” تُرجم في هجومٍ عنيف للنائبين جورج عقيص والياس اسطفان ليلة تواجده في زحلة. غير أن موقف رئيس بلدية زحلة أسعد زغيب الملتبس، الذي منح موافقته للطرفين مع أن “التيار” كان السباق، دفع باسيل في خطابه لحشره أمام الجميع. من يعرف رئيس “التيار” يدرك شخصيته التي لا تقبلُ الإستسلام ولا المراوغة، فباتت الكرة عند زغيب في ظل الإصرار على هذا المشروع، وعلى أفكار أخرى تنموية، سواء لنهر البردوني أو لغيره.
وخلاصةُ جولة باسيل الزحلية أنها منحت الحركة المبادِرة المضادة للتيار في المدينة والقضاء زخماً جديداً، لا سيما وأنّ مؤسس الحالة العونية كان حاضراً في اجتماعاتٍ مع أساقفة المدينة تخلّلها تشديد على مواجهة خطر النزوح، وفي العشاء الذي سجّل نجاحاً تنظيمياً بحسب الموجودين مع حضور فعاليات دينية ووزارية وبلدية، وجعله منطلقاً لأنشطة أخرى باتجاهات سياسية واقتصادية وتنظيمية.