![](https://akhbarkum-akhbarna.com/wp-content/uploads/2024/03/WhatsApp-Image-2024-03-17-at-15.59.06-original-e1713134187642-511x500.jpeg)
كتب ميشال ن. أبو نجم
من المعروف أن الإنتخابات تُلمس نتائجها بأجهزة استشعارٍ للجو السائد، إضافة إلى كونها تنظيماً وتحالفاتٍ وخطاباً إعلامياً. ومن راقبَ حركة النقيب الجديد للمهندسين فادي حنا قبل أشهر، كان يلمس القدرة الكبيرة على الفوز. وفضلاً عن الجهد الشخصي الحثيث للمسؤول السابق للجنة الطلاب، تحول التيار الوطني الحر خليّة نحلٍ في التنظيم والماكنة الإنتخابية والإعلام على مستوى الأقضية واللجان المركزية، ما ساهم بالترابط مع التحالفات، بفوز حنا، لا بل بعودة “التيار” ظافراً إلى إحدى قلاعه الأساسية منذ فترة النضال في التسعينات.
تلاصق “التيار” بنقابة المهندسين خاصةً، كبير. انخرطوا فيها بتحالفاتٍ مع فئات “معارضة” في فترة السيطرة السورية، ما أوصل الرمز النقابي الشهير حكمت ديب إلى أمانة سرّها. كذلك، يحتل المهندسون القسم الأكبر من قيادته وكوادره. جبران باسيل، سيزار أبي خليل، آلان عون، سليم عون، بول نجم، وغيرهم العديد مما لا يتسع مقال قصير لذكرهم. أما فادي حنا، فقد خاض تجربة طويلة مع الطلاب والشباب في فترة بالغة الدقة في مرحلة تصاعد غليان الجو اللبناني في مواجهة وضع اليد السورية آنذاك، ما ساهم بالتصاقه بالجسم “التياري” تنظيمياً وحزبياً.
لكن ماضي فادي حنا ليس كافياً. فنقيب المهندسين نسجَ علاقات وثيقة في كلِّ الإتجاهات لبنانياً وفي كل الشرائح، وهذا ما ظهر جلياً في باحة نقابة المهندسين الأحد في بئر حسن. أما برنامجه وعمله وخطابه، فعوامل انصبّت كلّها نحو بناء صورة نقابية خالصة، لا يكون فيها “الحزبي” والسياسي، إلا ظهيراً وداعماً، لا واجهة.
ولحسابات الجسم الحزبي في “التيار”، دوافع عميقة. يريدون العودة إلى النقابات، إلى الطلاب، إلى المساحات المشتركة اللبنانية التي شكّلت الحاضنة لنمو جنينِ حركتهم المعارِضة والمواجِهة، ما ساهم في تصليب عودهم، وأيضاً في تجذيرهم في المجتمع اللبناني، ونخبته، على الرغم من كل الضغط والقمع آنذاك. ومن هنا، تحولت النقابات والمجالس الطالبية في الجامعات مرآة للأحجام السياسية، ولتحولات المزاج اللبناني وبيئاته الطائفية.
كل ذلك صحيح. هذه أمور يلمسها المراقب لحركتهم وضجيج حركتهم. لكن هناك ما هو أبعد.
من يتطلع إلى وجوههم، وإلى عيونهم، يدرك أن إسقاط مفاعيل ما بعد 17 تشرين، قابع في وجدانهم وعقلهم. حتى لو لم يثيروا هذه الذاكرة، لكنها تبقى حاضرة كأنها حدث أليم جماعي.
لم ينسوا الهجوم الإعلامي الضاري الذي تعرضوا له. في ساحة شهداء لبنان، صرخ فتية داعين لطرد اللبناني جبران باسيل، لإحلال النازح السوري مكانه. والدة باسيل شُتمت. هوجموا في المقاهي وفي سياراتهم. الترهيب الفكري استهدف خاصةً مناعتهم السياسية، في أكثف حرب نفسية إعلامية – سياسية يمكن أن تُدرس في الأكاديميا اللبنانية الإعلامية. وجدوا أنفسهم محاصرين في الشارع، وهم الذين قادوه على سنواتٍ طوال. انقلب ظهر السياسة والتحولات بقرار خارجي واضح المعالم، فراحوا يحاولون استرداد ما ذهب، في الشعبية، والسياسة، رويداً رويداً.
هنا، تصبح دلالات انتخابات نقابة المهندسين أكثر وضوحاً. فالمسار لم يكن وليد لحظة الأحد 14 نيسان 2024، على أهميتها. عملوا بقدر استطاعتهم للعودة. نقابة المحامين تعثروا فيها. صار مطلب ترسيخ الوجود أكثر إلحاحاً. واصلوا الأنشطة التواصلية مع البيئة اللبنانية ككل. من مؤتمر إلى آخر حول النزوح السوري وتجارب البلديات، ووثيقة الأخوة الإنسانية، والدولة المدنية، كما مؤتمرهم التنظيمي في ذكرى “14 آذار”. راحوا يعيدون نسج الخيوط مع من ابتعد عنهم، ومن حافظ على تواصله معهم، على الرغم من كل الضغط الترهيبي. بالتوازي، استمرت الجهود السياسية للخرق. منذ نحو عام، صار اللبنانيون يلمسون أن الجو في طرابلس تغيّر تجاه جبران باسيل الذي باتت زيارات شخصيات طرابلسية ومنها مخاصمة له سابقاً، دورية وعادية. في لقاء صحافيين وإعلاميين كذلك من اتجاهات مناقضة. من زحلة إلى لقاءات مكتب “العمل الوطني” في صيدا وإفطار جبيل وغيرها، التوجه يبقى في اتجاه التواصل الإيجابي.
من هذه الخلفية، تكون قراءة المشهد الإنتخابي للمهندسين أكثر وضوحاً. هذا لا يعني إلغاء أهمية التحالفات وتحديداً مع الثنائي الشيعي. لكن الصوت المسيحي كان وازناً وبقوة، والذي تقدره ماكنة “التيار” بما يناهز ال45 بالمئة. لكن في المقابل دلالات عدة. عدم حماسة سُنية. عدم قدرة للقوات اللبنانية على استثمار قضية المغدور باسكال سليمان سياسياً. على أن أهمية التحالف، لا يمكن أن تلغي الحضور الإنتخابي للتيار، بما جعله قوة استقطابية للتحالفات، فضلاً عن أبعاد سياسية أخرى لدى ثنائي حزب الله – حركة أمل.
وفي رسائل باسيل في احتفال الفوز في “ميرنا الشالوحي”، كل الدلالات العميقة. كرّس تجويف سلاح الترهيب ضد “التيار” ومناصريه، وبالتوازي، أظهر إبطال مفاعيل الحملات الإعلامية لخصومه. أما للمناصرين، فتذكير بالمثال الناجح الذي لا يمكن أنْ يستند إلا على العمل الدؤوب، والتواصل الإيجابي حتى مع الخصوم. كان هذا التذكير بمثابة “يافطة” يرسمها باسيل لتحفيز ماكنة “التيار” لا بل الطامحين، – وعادة هم كثر- إلى “خارطة الطريق” الطويلة.
هي فرصة أيضاً للرد على اتهام “القوات” له بالتنكر للإتفاقات. كانت عينا بول نجم، المرشح السابق لنقيب المهندسين عام 2017، تغرورقان وهما تسمعان جبران باسيل يذكّر بتلك الإنتخابات وإسقاط “القوات” نجم على بضعة أصوات، في عز “تفاهم معراب” آنذاك.
في فوز فادي حنا، كان التيار الوطني الحر يعلن العودة إلى مساحاته المشتهاة. فاعلون في النقابات، ولدى جيل الشباب الذي يمثل هاجساً إضافياً. هي فرصة لهم لتجديد القدرة على “المعارك”، واستعادة مشاهد سابقة، تاقوا إليها طويلاً.
في كل المسار، عودةٌ واستعادةٌ ورسائل لا ينساها باسيل للجميع بعد طول حصار…