![غسان تويني](https://akhbarkum-akhbarna.com/wp-content/uploads/2023/06/131417Image1-1180x677_d-800x500.jpg)
كتب جورج حايك: في ظلّ الديبلوماسية المريضة التي يعتمدها لبنان، مستكيناً إلى محور الممانعة، لا يسعنا إلاّ استذكار غسان تويني في ذكرى غيابه، فهو كان أحد رواد الديبلوماسية اللبنانية العريقة، إلى جانب شارل مالك وفؤاد بطرس وإيلي سالم.
كان تويني سفيراً لبلد صغير ممزّق في الأمم المتحدة، معتمداً ديبلوماسية ناجحة ومؤثرة بفعل وجود سياسة خارجية مبادرة ونشيطة، تقوم على أولويات وتوافقات وطنية راسخة وتحمل رؤية لموقع البلد على الخارطة الجيوسياسية ولمصالحه وقدرة على احداث توازن بين الإمكانات والأهداف. علماً أن التوقيت الذي عيّن فيه تويني سفيراً كان حساساً أي عندما كان لبنان في آتون الصراع عام 1977، والبعض يسأل: متى لم يكن لبنان أسير الحروب والصراعات؟
عرف تويني أنه المطلوبُ دائماً اتباع سياسة الحد من الخسائر وبناء توافقات اللحظة، مع ذلك استطاع أن يعطي الديبلوماسية اللبنانية ثقلاً كبيراً ودوراً محورياً لم تكن توفرها الامكانات الوطنية للبنان. لكن وزنه الديبلوماسي الشخصي برؤيته وثقافته ونشاطاته شكل القوّة الليّنة التي كانت قوّة اساسية لدور لبنان. فكان غسان تويني موجوداً بما يمثل في قلب مختلف القضايا التي تُعنى بها المنظمة الدولية. وظلّ في هذا المنصب حتى العام 1982، الذي شهد الإجتياح الإسرائيلي لبنان. يومها نجح تويني في استصدار القرار الشهير رقم 425 الذي فصل بين قضية لبنان وأزمة الشرق الأوسط، وطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من لبنان.
لكن ما لا يعرفه كثيرون أن تويني كان ديبلوماسياً كبيراً مدافعاً عن قضايا لبنان وقضايا العرب حتى لو لم يكن في موقع ديبلوماسي رسمي. الديبلوماسية الرسمية مارسها لفترة قصيرة نسبياً، ولكنها كانت غنية كثيراً في حياته الزاخرة بالعطاء. الديبلوماسية عنده حالةٌ قائمة في شخصه وفي شخصيته، في كل نشاطاته الخارجية واتصالاته المتنوّعة والمتشعّبة والغنية. الديبلوماسية عنده فنٌ وعلم: فنّ الإتصال وعلم الإقناع وإبلاغ الرسالة. الديبلوماسية ليست لغةٌ خشبية وأفكاراً معلّبة كما يراها بعض الديبلوماسيين اليوم، بل هي انخراطٌ خلاّق واستفزازٌ مهذّب وحريةُ مبادرة وحركة في اطار الثوابت الوطنية والموضوعية. كانت تلك هي الديبلوماسية عند غسان تويني. وكانت أيضاً سحرُ الكلمة ورونقُ الاسلوب ورقيُّ المخاطبة وجرأةُ الفكر وسرعةُ البديهة ومرونةُ الحوار وغنى المضمون وسعةُ الثقافة ووضوح الرؤية وشمولية المقاربة.
وما أحوجنا اليوم إلى ديبلوماسية تويني الذي ادرك دائماً، وأكّد دوماً، أن غياب السلام في الشرق الاوسط، وترابط وتداخل ازمات المنطقة وانسداد افق التسوية، امور مكلفة وخطيرة على لبنان في وظيفتيه اللتين فرضتهما متطلبات الجغرافيا وهشاشة السياسة: وظيفة الساحة ووظيفة صندوق البريد. إذ تنعكسُ هذه الازمات على الوطن الصغير في توترات وحروب من أشكال مختلفة. تويني اكّد دائماً أن التسويات العادلة لقضايا المنطقة، وفي طليعتها القضية الفلسطينية هي لمصلحة لبنان اساساً كما هي لمصلحة فلسطين والعرب. فحالة اللاحرب واللاسلم قد يتحملُها كثيرون ويتعايشون معها، لكن لبنان كان يدفعُ ثمن التوترات الناشئة عنها يومياً.
غسان تويني كان يدرك دائماً أن القرارات الدولية لا تنفِّذُ، وان المطلوب توظيف كل عناصر القوة من أجل وضع هذه القرارات موضع التنفيذ. فلا يكفي أن تكون صاحب حق ان لم تمتلك الامكانات الضرورية للدفع نحو تأكيده على ارض الواقع.
كان مدرسة في شخص، وبالنسبة إليه الديبلوماسية كانت فناً وعلماً، فن الاتصال وعلم إيصال مضمون الرسالة بالشكل الأفضل، مركزاً على الثوابت ولكنه بقي مرناً في مقارباته للأمور.
في الليلة الظلماء يفتقد البدر، والحقيقة اننا نفتقد إلى أمثال غسان تويني اليوم، في ظل ديبلوماسيّة لبنانية شديدة الرعونة، متبلّدة العقل، تعوزها الحكمة والثقافة والذكاء! ليست القضية محصورة بوزير تافه، ولا بموقف سفير أتفه منه، بل بنسق مرضيّ أخذ يتعمّم ويتوسّع في كل مفاصل الحياة السياسية والوطنية والاجتماعية. وهو نسقٌ يتغذّى من ذهنية غائرة في التسطيح والشوفينيّة والمشروع الظلامي الممانع.
نعم نفتقد ديبلوماسية غسان تويني التي تفوّقت على ذاتها، فأضافت ما يضيفه التجويد إلى الذوق. وتناغمت، حتّى في أحلك الظروف، مع أجزل معايير الرشاقة السياسية وأسمى أوجه الوطنية الخالصة.
كيف السبيل للعودة إلى زمن الديبلوماسية الذهبية في لبنان التي صنعت مجد العالم معها، من شارل مالك إلى غسان تويني وفؤاد بطرس، والعديد من الأسماء اللامعة التي تمكنت من صنع القرار وتحييد لبنان معها؟
ها نحن اليوم أمام ديبلوماسية الدفاع عن حروب يشارك فيها حزب الله أو من خلال تجارة الكبتاغون. للأسف، إنها الحقيقة الموجعة التي حوّلت لبنان إلى دولة تعيش على فتات الدول الأخرى، ولا يمكنها أن تحسم دور لبنان وموقعه في المنطقة أو في العالم العربي.