كتبت فاطمة حوحو لأخباركم ــــ أخبارنا: منذ أيام أصدر المدعي العام السويسري قرارا اتهم فيه رفعت الأسد (86 عاما) باِرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بعد عام من طلبه إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه. وكانت النيابة العامة الفيدرالية طلبت من مكتب العدل الفيدرالي في 2021 إصدار هذه المذكرة، لكن المكتب التابع لوزارة العدل رفض طلبها، بدعوى أن سويسرا ليست لديها صلاحية لمحاكمة رفعت الأسد، كونه ليس مواطنا سويسريا ولا هو مقيم في سويسرا، ولا حتى يمتلك مسكنا في هذا البلد.
وبحسب البيان الصادر أخيرا عن مكتب العدل الفيدرالي، فإن رفعت الأسد “أمر بقتل وتعذيب واحتجاز غير قانوني لآلاف المدنيين في عام 1982 عندما كان قائدا لألوية الدفاع الحكومية والعمليات في حماة”.
وكانت سويسرا قررت فتح تحقيقً جنائيً مع رفعت الأسد بعد تقديم شكوى في عام 2013 من قبل منظمة TRIAL International ومقرها جنيف.
تتعلق التهم بـ”مذبحة حماة” عام 1982، بحجة القضاء على تمرد جماعة الإخوان المسلمين ضد نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، مما أدى إلى مقتل ما بين 30.000 إلى 40.000 مدني قتلوا في الهجوم.
والجدير ذكره أن رفعت الأسد متهم أيضا باِرتكاب مجزرة بمعتقلين في سجن تدمر، في 27 حزيران من العام 1980، أودت بحياة مئات السجناء من المعارضين من عدة تنظيمات سياسية، لا سيما متهمين بالانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين. وحسب مصادر حقوقية وصل عدد القتلى إلى 1200. وجاءت هذه المجزرة في السجن الواقع في صحراء تدمر بعد يوم واحد من إعلان السلطات عن محاولة اِغتيال تعرض لها حافظ الأسد، وأمر على الإثر شقيقه رفعت، الذي كان يقود سرايا الدفاع، بتنفيذها. وقد أشرف على العملية صهر الأخير الرائد معين ناصيف، وتم إعدام مئات السجناء رميا بالرصاص والقنابل المتفجرة. وجرى دفن جثامين القتلى في حفر أعدت مسبقا في وادٍ يقع إلى الشرق من تدمر. وما زالت “اللجنة السورية لحقوق الإنسان” تطالب بالكشف عن أسماء الضحايا وأماكن دفنهم.
رفعت الأسد كان نفي من سوريا عام 1984 بعد محاولة انقلاب فاشلة على أخيه، وسافر إلى سويسرا ثم إلى فرنسا، قبل أن يعود إلى سوريا في عام 2021. ومن غير الواضح ما إذا كان يقيم حتى الآن في سوريا أو في مكان آخر.
يمكن حسب القانون السويسري إجراء المحاكمة غيابيا إذا لم تسلم سوريا الشخص المطلوب، حيث لم يصدر أي تعليق رسمي سوري على القرار بعد.
وكانت محكمة فرنسية أيدت في عام 2021، حكما بالسجن أربع سنوات صدر ضد رفعت الأسد بتهمة ارتكاب جرائم مالية. كما أُدين باختلاس أموال سورية واستخدامها لشراء كمية كبيرة من العقارات في فرنسا.
أما سرايا الدفاع التي ترأسها رفعت فهي قوة عسكرية لم تتبع الجيش النظامي السوري، بل أوكلت إليها مهمة “حماية السلطة الحاكمة”، وضمت 40 ألف مقاتلا، وسمحت لرفعت بتعزيز سلطته في البلاد.
في العام 1979، ألقى رفعت الأسد خطابا خلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث، قال فيه إنه من أجل مواجهة الإخوان المسلمين، وكل حزب يحمل “قيم رجعية” تُعارض الدولة، يجب تكرار ما قام به “جوزيف ستالين” في روسيا؟!. واقترح إصدار قانون “للتطهير العرقي” يطال كل “منحرف عن المسار الوطني، كما أوصى بإغلاق الجوامع في سوريا باِعتبارها “مكانا لإنتاج الفكر المُتعصب والطائفي”، كما هاجم النساء المحجبات. وكل هذه المواقف كانت مؤشرات لما حدث في حماة.
في نهاية يناير ـــ كانون الثاني 1982، قاد رفعت الأسد، الذي لقب بــ “جزار حماة”، 20 ألف جنديا من سرايا الدفاع والفرقة الثالثة واللواء 21 واللواء 57 والمخابرات العسكرية، بمساندة من القوات الخاصة بقيادة علي حيدر، لمحاصرة المدينة حيث تم إغلاق مداخلها، وفي الثاني من فبرايرــــ شباط بدأ القصف ينهال على المدنيين، تم قُطع الكهرباء والاتصالات، وبعد ثلاثة أيام، بدأت التحركات البرية ودارت اشتباكات مع مقاتلين من تنظيم الإخوان، وجرت عمليات إنزال مظلي قامت بها قوات الجيش، وبعد حصار المدينة وقصفها لمدة شهر، اقتحمتها “سرايا الموت”، كما يطلق عليها السوريون، التابعة لرفعت الأسد، وقامت بإخراج الناس إلى الشارع وتصفيتهم، وارتكبت مجازر في الأحياء، لا سيما في “حي الملعب”، وتمت عمليات إعدام للمدنيين وممارسة عنف جنسي، كما أحرقت الممتلكات وسرقت ونهبت، وسويت البنايات بالأرض وجرفت، واستمرت المجزرة حتى 28 فبرايرــــ شباط، إذ سُمح بالتجوال في الأول من مارس ــــ آذار. وكلها جرائم حرب موصوفة.
ووفق تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، الصادر عام 2022، أدت هذه العملية العسكرية إلى سقوط نحو 40 ألف قتيلا، وُثقت أسماء نحو 10 آلاف منهم، و17 ألف مفقود وثقت أسماء نحو 4 آلاف منهم، بالإضافة إلى تدمير قرابة 79 مسجدا و3 كنائس، وتدمير أحياء كاملة.
هذا بالإضافة إلى الاعتقالات، جرى الزج بأعداد كثيرة من شبان حماة في السجون العسكرية، وتم إنزال عقوبة الإعدام بكل مواطن تم اعتقاله، وهناك أعداد من المفقودين لا يعلم أهلهم شيئا عن مصيرهم، هل هم أحياء أم أموات؟ وحتى الأموات المعروفين غير معلوم أين دفنوا. ولا تكاد تخلو عائلة في حماة حتى اليوم إلا وفيها شهيد أو مفقود أو مهاجر من جراء تلك المجزرة.
في ذاكرة أهالي حماة كلام يروى عن رمي المعتقلين على الأرض ومشي الدبابات فوق أجسادهم وهم أحياء في “منطقة الحاضر”، أما في حي “الباشورة” فحكايات صب الأسيد من فرق الإنزال الجوي على الأهالي، وبقر بطون مواليد الأطفال الذكور في المستشفيات، فأكثر من مروعة.
والمضحك المبكي أن حافظ الأسد بعد هذه المجزرة أعلن عن اكتشاف ثروات طبيعية في سوريا، في محاولة منه للتلميح بأن سوريا مقبلة على نقلة اقتصادية عظيمة، وكانت هناك عملية إعادة بناء للمدينة لاحقا، إلا أن حملات قمع المواطن السوري اشتدت وزادت، وعمليات نهب البلد واحتكار اقتصاده تواصلت مع وريث النظام (بشار)، الذي ستفوق جرائمه ضد الإنسانية جرائم سلفه، حتى إنه باع آثار البلد وتقدر بالمليارات، وأدت سياساته إلى إفقار السوريين، مع ازدياد ثروة عصابته، أكثر مما كان عليه الحال إبان حكم والده.
لم يعترف رفعت الأسد بارتكابه لمجزرة حماة، ففي محاولة للتقرب من المعارضة، قال إنها تهمة وكذبة روج لها “النظام السوري”، متهما شقيقه الرئيس آنذاك بالمسؤولية عما جرى، وبرر ما حدث بأنه “تطبيق للقانون الدستوري السوري الذي ينص على أن من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا يُعدم”. وأنكر وجود جهاز “سرايا الدفاع”، وقيادته لها.
بعد فشل محاولته الانقلاب على أخيه عام 1984، وافق رفعت على شروطه، فذهب إلى منفاه في موسكو وحصل على أموال من نظام العقيد الليبي معمر القذافي، الذي تدخل لحل مشكلة السلطة بين الطرفين، فانضمت “سرايا الدفاع” إلى الجيش، وأصبحت تُشكِّل الفرقة الرابعة بقيادة ابن حافظ الأسد (باسل). وبقي رفعت في المنفى 36 عاما.
بعد الثورة السورية كسر السوريون الصمت عن هذه المجزرة الرهيبة، فتحدثوا عنها، وهم يعيشون في ظل مجازر التي ارتكبها الأسد الابن بشار، الذي ورث الحكم بعد وفاة والده في العام 2000، ويكشفون ممارسات نظام الأسدية السياسية طوال عشرات السنوات، والمستمرة حتى الآن، من مجازر وقتل وتهجير واعتقالات وتعذيب وحفلات الانتقام من الأبرياء، أخرجوا ما في أعماقهم من ذكريات دفنها الرعب في دواخلهم، وفتشوا عن أهلهم وتجرأوا على رفع الصوت، زكلهم أمل في أن تكون الثورة ولادة جديدة لسوريا وللسوريين، بعد أن حطموا جدار الخوف وأسمعوا صوتهم للعالم، الذي على الأغلب فضل أن يبقى في حالة صمم وأن يستمر في دعم النظام ومساندة الطاغية، ولو ادعى العكس، وعلى رأسهم الدول التي تدعي قيادة “العالم الحر”، والتي تصدر من حين لآخر بعض القوانين أو تسمح بمحاكمة متهمين بجرائم حرب من رجالات بشار الأسد، وإصدار قرارات عن محاكمها بمعاقبتهم.
لم تكن مجزرة حماة عادية، إنها مجزرة شبيهة بما يرتكبه الإسرائيليون اليوم في غزة من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، فمجازر من هذا النوع لا يمكن نسيانها، ولا يمكن أن ينجح مرتكبوها في الإنكار والنجاة من الجريمة، إذ لا مفر من تحقيق العدالة ولو بعد حين، على الرغم من سياسات كسب الولاء بالتخويف والإرهاب.
لم تكن مجزرة حماة الوحيدة، لكنها الأبشع والأكثر دلالة على حقبة استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا منذ عام 1964، وما زال الكثير من الرواة يحكون قصصا واقعية حصلت عن وقائع ذلك القمع المنهجي الفظيع الذي لحق وطال شعب سوريا، قصص لا يتخيلها عقل، لكنها حقيقة للتاريخ.