كتب ابراهيم بيرم لأخباركم – أخبارنا: بعد رحلة نضال قياسية في طولها امتدت نحو 65 عاماً، وعلى حافة العقد التاسع من عمره، قرر أحد الرموز التاريخية للعمل النضالي الفلسطيني نايف حواتمة التقاعد من المنصب الذي كان يشغله منذ عام 1969، وهو منصب الأمين العام لـ “الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين”.
قرار “التقاعد” هذا أتى عبر آلية معقولة وسلسة تحفظ للرجل دوره ورمزيته، إذ أن المؤتمر العام الثامن الذي عقدته الجبهة اخيراً، وهو اعلى سلطة تشريعية فيها، هو مَن قرر هذا الاجراء بعدما سمّاه رئيساً للجبهة مدى الحياة، وهو منصب شرفي، وسمّى نائبه سليمان اميناً عاماً مع نائبين له احدهما المسؤول منذ مدة عن الجبهة في الساحة اللبنانية علي فيصل، اضافة الى تبديلات ادخلت على هرمية القيادة في الجبهة، وذلك في مؤتمر صحافي حاشد عقد في دار نقابة الصحافة في بيروت، حضره سفراء وممثلون عن فصائل واحزاب وقوى لبنانية.
قبل هذا الحدث، كان اسم حواتمة وصفته الريادية ورمزيته التاريخية كأحد ابرز وجوه النضال الفلسطيني وجبهة اليسار العربي، قد بدأ يغيب عن الاسماع والانظار، واستطراداً عن ساحة الفعل الريادي. إذ أن زمن اليسار الكاسح والصاعد النجم في نهاية عقد الستينات، كان قد بدأ يخبو تدريجاً ويخف وهجه، خصوصاً بعد الانهيار المدوّي للمنظومة الاشتراكية في مطلع عقد التسعينات، حيث بدأت الساحة الفلسطينية نفسها تؤول شيئاً فشيئاً الى قبضة القوى الإسلامية الصاعدة بسرعة الصاروخ، وتحديداً حركة “حماس” التي ولدت ونمت على جذر الاخوان المسلمين الذين كانت لهم جذور اولية في احشاء الاجتماع الفلسطيني كمعظم الساحات السنية.
حدث ذلك التطور الدراماتيكي بفعل امرين: حماية “إنتفاضة الحجارة” التي انطلقت في عام 1978، ومحاولة الفلسطينيين تجاوز حال الاحباط الذي شعروا به في اعقاب الاجتياح الاسرائيلي الواسع للبنان في صيف عام 1982، وما اعقبه من خروج لقوات منظمة التحرير الفلسطينية وجسمها العسكري والسياسي من بيروت، لتتفرق في عواصم شتى تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين المحتلة.
في ذلك الحين، حدث ما يشبه انقلاب المعادلات في الساحة الفلسطينية، إذ فيما حافظت حركة “فتح” برمزية مؤسسها أبو عمار على حضور معقول كان عليها ان تبذل جهداً كبيراً للدفاع عنه، كان اليسار الفلسطيني ممثلاً بـ”الجبهتين” الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين، قد بدأ يتآكل ويتراجع. ولم تجدِ كثيراً محاولاتهما لتلميع هذا الحضور وتثبيته، وهو ما تجسد في توحيد شكلي الجبهتين اللتين نشأتا من منبت واحد هو “حركة القوميين العرب”، ثم انفصلتا على نحو دراماتيكي في عام 1969، وتحديداً عندما اعلن حواتمة الموجود في الاردن آنذاك إنشقاقاً عن الجبهة الأم ورمزها الاول الدكتور جورج حبش (ضمير الثورة الفلسطينية) مؤسس الحركة. والذريعة الاولى للمنشقين حينها، كانت تخلّف الجبهة الأم عن تبني النظرية الماركسيّة والمضي بها.
بعد معارك صغيرة ومناوشات محدودة، إقتنع حبش باعلان الطلاق نهائياً مع “الديموقراطية”، وهكذا مضى حواتمة ورفاقه، ابرزهم ياسر عبد ربه (التحق في التسعينات بياسر عرفات) والعراقي قيس أبو ليلى، الى حالة خاصة راديكالية وتنظيم منفصل له كيانه وحضوره وتحالفاته ورؤاه الخاصة.
في ذلك الحين، ومن باب التذكير ليس إلا، اتهم تنظيم الجبهة الأم بزعامة حبش حركة “فتح” ومؤسسها ياسر عرفات بالوقوف وراء هذا الانشقاق، لأن “فتح” وجدت في الجبهة النامية والصاعدة لا سيما بعد العمليات الخارجية التي نفذها وديع حداد (تركزت على خطف الطائرات بالتعاون مع تنظيمات ومجموعات خارجية راديكالية) عامل منافسة حقيقية لها تحول دون بسط نفوذها على الساحة الفلسطينية التي كانت آنذاك في ذروة حراكها، والامساك بمنظمة التحرير التي كانت بلا حول بعد استقالة ابرز رموزها أحمد الشقيري.
ولاحقاً، اتخذت الجبهة الأم خطاً ونهجاً مميزين قرباها اكثر من سوريا ومحور المقاومة، لا سيما وقد نقلت قيادتها بعد خروجها من بيروت إلى دمشق مباشرة، وهو ما لم يفعله عرفات، مفضلاً الانتقال الى تونس، فدفع أثمان ذلك لاحقاً لا سيما وقد دخل في صراع ضار مع النظام السوري. اما زعيم “الجبهة الديموقراطية” حواتمة، فقد آثر بعد الخروج من بيروت أن يؤول الى الظل والعتمة، اذ لم يُعرف له مكان ثابت بعد خروجه من بيروت، حيث كان يقال تارة إنه مقيم في دمشق وتارة موجود في عمان. لكن الظهور المدوّي والاخير له، فكان إبان تشييع جنازة العاهل الاردني الراحل الملك حسين، خصوصاً وقد مد يده ليصافح الرئيس الاسرائيلي آنذاك، فكان أن سلطت عدسات الصحافيين عليهما معاً.
لكن، ومع مطلع التسعينات، غاب حواتمة بشكل شبه نهائي عن الواجهة الاعلامية ما خلا بعض المقابلات العابرة وكتاباً أصدره ووزع في بيروت، بيّن فيه رؤية سياسية وفكرية جديدة تتماهى مع مرحلة ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
وكانت العلامة الفارقة التي تدل على أن هذا التنظيم ما انفك موجوداً هو حراك يقوم به رموز من الجبهة في بيروت، الا ان كان المؤتمر العام الاخير للحركة والذي من ابرز انجازاته هذا التبديل في قيادة الجبهة، وإحالة امينها العام المؤسس الى تقاعد شرفي يجعل منه مرجعية دائمة ما دام على قيد الحياة. تماماً كالدور الذي لعبه رفيقه التاريخي جورج حبش الذي قدم في عام 2002 استقالته من منصبه كأمين عام للشعبية، وانتقل الى ادارة مركز ابحاث مهمته اجراء تقييم عام للدور النضالية الطويلة التي تنكبها حبش منذ ان كان طالباً في كلية الطب في الجامعة الاميركية في بيروت في عام 1947 الى أن أسس حركة القوميين العرب مع ستة رفاق آخرين وكلهم من طلاب الجامعة الاميركية، لكن بعدها بأعوام حل الحركة ليؤسس الجبهة الشعبية ومعها حزب عربي (حزب العمل الاشتراكي العربي).
وهكذا قرر حواتمة، الاردني الأصل، المسيحي الانتماء الديني (إنجيلي)، التقاعد أخيراً بعد رحلة نضال امتدت على مدى اكثر من 70 عاماً بدأت في حركة القوميين العرب (يعود تأسيسها رسمياً الى عام 1955) حيث شغل منصب المسؤول عن ساحة العراق فيها قبل أن ينتقل الى الأردن بعد هزيمة حزيران، ويشارك في تأسيس الجبهة الشعبية، قبل الانفصال عنها نهائياً.