كتب سلمان سري الدين
السلطة والقضاء خَصم ام حَكَم ومتحكًم؟ الشلل الذي يضرب مختلف مؤسسات الدولة اللبنانية في كفّة، وما أصاب القضاء من وهنٍ وعجز بفعل التدخلات السياسية في كفّة.. اختلّ ميزان العدل في لبنان بأثقال سلطةٍ أخضعت المؤسسة القضائية لمآربها السياسية وطوّعتها خدمة لمصالحها، فكان الانقسام العامودي في الهيكل العدلي الذي هو أساس بنيان الدولة العادلة والحافظة لحقوق مواطنيها. فهل من سبيل لإصلاح السلطة القضائية واجتثاث الفساد من الجسم القضائي، وكيف ؟
تعددّت أوجُه تعطيل عمل القضاء.. من تراكم ملفات أساسية مُهملة عن قصد ومرميّة في الأدراج، الى عرقلة التحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت وقضايا الناس الضائعة بسرقة أموالها والارتكابات المالية والمصرفية. كما تلقى القضاء ضربات من مختلف الجهات، ومنها تجميد صدور التشكيلات القضائية، ما أدى الى تهشيم درعَ النزاهة والاستقلالية الذي يحصّن الجسم القضائي من أي اختراق، وما سهّل بالتالي لبعض الأزلام من داخله وللسياسين عملية الإنقضاض على القضاء، ليعلو بنيان هيكل “شريعة الغاب” على أنقاض “دولة القانون والمؤسسات”.
التدخلات السياسية في عمل القضاء جاءت منذ الولادة، فقد درَجَ أهل السياسة وأصحاب النفوذ من مختلف الطوائف اللبنانية، على إدخال محاسيبهم وأزلامهم الى السلك القضائي كما الى إدارات الدولة، ليكون ولاء مَن يتم تعيينهم للجهات السياسية وليس للقسَم والدولة وللمؤسسة التي ينتمون إليها. و”لولا وجود العديد من القضاة النزيهين والأكفّاء والعصاميين، لكنّا وصلنا الى كارثة أكبر”، على حدّ تعبير رئيس “حركة التغيير” المحامي إيلي محفوض.
ويقول محفوض في حديث لموقعنا (أخباركم- أخبارنا) إن السؤال عن أي قضاء لدينا في لبنان؟ يتبعه التساؤل عن أي لبنان نعيش فيه اليوم، وأين المؤسسات؟ وأضاف: “الموضوع لا يقتصر فقط على المؤسسة القضائية بل ينسحب على كل المؤسسات التي تشهد انهياراً لم يحصل في تاريخ الجمهورية اللبنانية. لكنّ العين على القضاء نظراً لوجود ملفات متراكمة وأساسية من المفترض أن يواكبها ويحقق فيها، ويذهب بها الى النهاية ليكون على قدر تطلعات اللبنانيين. فهذا القضاء الموجود اليوم ليس قضاءً واحداً.
وتابع “صحيح أن هناك بعض القضاة الشرفاء النزيهين ويقومون بعملهم، لكن للأسف لا تزال السلطة السياسية تهيّمن، تسيطر، تقود وتتحكّم بمسار العمل القضائي، وفساد الطبقة السياسية متفشٍّ في الجسم القضائي منذ زمن بعيد”، مشدداً على وجوب “تحرير القضاء من المحاصصة وهيمنة السياسيين على بعض القضاة والمحاكم، الى جانب صياغة قوانين وتشريعات تجعل المؤسسة القضائية مستقلة كلياً عن القيادة السياسية، وتطبيق مبدأ فصل السلطات. وهذا هو العنوان الأهم لإصلاح السلطة القضائية”.
ويعود محفوض بالذاكرة الى محطات تاريخية من الاغتيال السياسي، يوم غاب فيها الحضور الفاعل للقضاء وهيبته، “ليس تقصيراً بل مرغماً، لا سيما استشهاد الرئيس الأسبق رينيه معوض، واغتيال كمال جنبلاط، والمفتي الشيخ حسن خالد، والرئيس بشير الجميل، وصولاً الى ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي حطّ في أروقة المحاكم الدولية، ما شكّل إشارة وانذاراً بأن القضاء في لبنان لا يمكنه أن يصل الى نتيجة بملفات بهذا الحجم، وبقيت ملفات الاغتيال في الأدراج ولم يتم البت بها، علماً أن الحقيقة معروفة ومكشوفة.. لماذا لم يقم القضاء بدوره؟ هو السؤال الذي يطرح نفسه”.
ويشدد رئيس “حركة التغيير” أننا والحال هذه، وبفعل عرقلة التدخلات السياسية لعمل القضاء، “مضطرون للجوء الى القضاء الدولي لمعاقبة مرتكبي جرائم الاغتيال. وما جرى في جريمة تفجير مرفأ بيروت خير دليل، بالرغم من العمل الجبار للقاضيين فادي صوان وطارق البيطار.. وشفنا شو صار، حيث للحظة كنا سنذهب الى حرب أهلية، وغزوة عين الرمانة كان القصد منها الإطاحة بالمحقق العدلي”.
ورغم إعرابه عن الأسف لعدم قيام القضاء بالدور المنوط به كما يجب، يؤكد المحامي محفوض أنه “علينا دائماً التعويل كأبناء هذا الوطن وبإيماننا بالمؤسسات وعدالتها وديمومتها، على القضاء الذي هو الملاذ الذي يلجأ إليه المواطن، وإلا نصبح في شريعة الغاب وهذا الأمر مرفوض كلياً”.
كثيرة هي الملفات القضائية التي تُفتح ويتم التحقيق فيها، وفي بعض الأحيان تتم لفلفة القضايا بناء لرغبة هذا الفريق أو ذاك، أو تصل التحقيقات الى خواتيمها وإصدار أحكام ولكن أيضاً على طريقة “تركيب ملفات وتُهم”.. هذه الملفات برأي الصحافي طوني بولس، “لا تُفتح لملاحقة المرتكبين أو مَن تعدوا على حقوق الناس بل لغاياتٍ سياسية، وأحيانا بكيدية، ما يؤدي الى إحداث شرخ في الجسم القضائي ويضع القضاء في مواجهة داخلية. وهذا يؤدي عملياً الى شلّ الدورالمنوط بالقضاء الذي يُصبح شبه غير موجود”.
ويذهب بولس في حديث لموقعنا، بعيداً في توصيفه لوضيعة القضاء اللبناني، قائلاً: في الدستور، القضاء هو سلطة مستقلة، لكن القوانين لم تَفصُل فعلياً القضاء عن السياسة، حيث أن تعيين القُضاة يخضع للسلطة السياسية، ما يعني أن العديد من القضاة باتوا بمثابة حراّس للسياسيين وللدفاع عنهم، ولحماية الطبقة السياسية لا عن حقوق الناس أو تحقيق العدالة”.. وبما أن الطبقة فاسدة، يضيف بولس، فإن الفساد انتقل الى العمل القضائي، “وهذا ينطبق على قضية تفجير مرفأ بيروت، حيث جرت عرقلة التحقيقات وإجهاض العدالة بهذا الملف، وبالتالي ضياع حقوق الناس وذوي الضحايا، وينسحب كذلك على العديد من الملفات والقضايا الأمنية والمالية”.
من جهته، يعتبر الصحافي المتخصص بالشأن القضائي يوسف دياب، أن “القضاء اللبناني لا تزال له عملياً الكلمة الفصل في العديد من الملفات، لأنه حتى الآن هو صاحب الصلاحية للتحقيق في قضايا عدة: كأموال المودعين والمصارف وقضية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وصولا الى التحقيق في قضية المرفأ، علماً أنه حتى اليوم لم يتم البت بأي من هذه القضايا”.
وأوضح دياب “لموقعنا” أن ملف المرفأ متوقف بسبب عشرات الدعاوى المُقامة ضد المحقق العدلي طارق البيطار والتي أدت الى كفّ يده، ولا إمكانية اليوم لانتقال هذا الملف الى القضاء الدولي، في ظل غياب حكومة فاعلة تطالب بلجنةٍ دولية أو لجنة تقصي حقائق تضعُ يدها على القضية، إلا إذا أثمرت جهود ذوي الضحايا والمتضررين في نقل القضية الى المحافل الدولية، وهذا دونه عقبات ومصالح سياسية ودولية”.
وبالنسبة لأموال المودعين وحجب المصارف لحقوق الناس، فهناك عشرات الدعاوى المُقامة من المودعين ضد المصارف، ولا بدّ من الاعتراف أن القضاء يُعتبر قاصراً في متابعة الدعاوى، لأن الحل ليس بالأحكام القضائية، حيث لدى صدور أي حُكم، كان يؤدي الى إقفال المصرف وإضراب جمعية المصارف وتعطيل القطاع المصرفي، وبالتالي برأيي الحل هو سياسي ومن ثم اقتصادي”.
وتجدر الإشارة هنا، الى أن التحركات في الشارع لا تتوقف لجمعيات المودعين، وما تشهده أحياناً من “أعمال شغب” والدخول بقوة السلاح الى العديد من المصارف لحصول الناس على أموالها ومدخراتها، إنما هذه التحركات، برأي المتابعين للشأن المالي، تبقى لرفع الصوت ولا تُنتج الحلول المطلوبة، والعالقة بين الدولة والمركزي والمصارف، وأيضاً بانتظار إقرار قوانين إصلاحية ومنها الكابيتال كونترول وخطة التعافي الاقتصادي، وحتى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، في ظل مجلس نواب معطّل وحكومة لا تجتمع إلا على القِطعة.
في قضية رياض سلامة، يشير الصحافي يوسف دياب إلى أنها تتوزّع الى شقين: المسار اللبناني حيث هناك محطة للتحقيق مع حاكم المركزي وشقيقه رجا وماريان الحويك، في 15 حزيران المقبل. والشق الدولي- الأوروبي الذي كانت باكورته إصدار مذكرة توقيف دولية بحق سلامة، عُممت عبر الإنتربول، وبالتالي أصبح الملف متشعباً وشائكاً وكبيراً ويَنتظر ما سيقوله القضاء اللبناني بشأن المذكرة، على أن يستدعي النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات سلامة الى جلسة استجواب، ولاحقاً يأخذ القرارالمناسب بهذا الشأن. وإذا ثبُت بأن الجرائم المدعى فيها على سلامة في الخارج هي حقيقية، لا يجوز أن يُسلّم لبنان سلامة ليُحاكم في الخارج، فهو مواطن لبناني ويُلاحق أمام القضاء اللبناني”.
ماذا تعني ملاحقة سلامة أمام القضاء اللبناني، إذا لم ترَفع القوى السياسية الغطاء عنه؟ تسأل المصادر. خصوصاً أنه متهم بقضايا فساد وتبييض الأموال وتهريبها، وهل للحكومة من كلمة بهذا الشأن؟ في ضوء الجدل القائم حول تعيين بديل للحاكم الذي تنتهي ولايته مطلع تموز المقبل.
الى ذلك، يذكّر دياب أن “بوادر الأزمات في الهيكل القضائي بدأت مع التشكيلات القضائية التي وضعت العام 2016 والتي عيّن الرئيس ميشال عون رموزاً له من خلالها في مواقع أساسية، منهم القاضية غادة عون، محوّلاً بذلك القضاء الى محمية سياسية لعهده. وقد لجأ عون بعد ذلك الى تجميد مرسوم التشكيلات التي وضعها مجلس القضاء الحالي برئاسة القاضي سهيل عبوّد، والتي كانت تشكل تصحيحاً للخلل القضائي، لأنه أعتمد مبدأ وجود القاضي المناسب في المكان المناسب”.
ويختم: “إستقامة العمل القضائي تبدأ من الاستقامة السياسية للبلد والبدء بعملية إصلاح حقيقي، ما ينسحب على العمل القضائي. ولإبعاد القضاء عن الفساد، لا بدَّ من وضع قانونٍ لاستقلالية القضاء، ووضع تشريعات خاصة به تمنع على السياسيين تعيين القُضاة، بمعنى أن ينُتخب مجلس القضاء الأعلى من قبل القُضاة، ومن ثم أن يكون للمجلس السلطة الشاملة لإصدار التشكيلات القضائية من دون انتظار القوى السياسية. والأهم تفعيل الهيئات الرقابية، وكذلك الهيئات التأديبية.عندها يستقيمُ العمل القضائي وتُصبح لدينا عدالة مجرّدة من التدخلات، ومن تحكّم أهل السياسة بعمل القضاء.