كتب ابراهيم بيرم
كان السؤال المباشر عند قسم كبير ممن علموا بنبأ تقديم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إستقالته من رئاسة الحزب التي يتولاها منذ عام 1977، بوجه من “يلقي” الرجل هذا الاستقالة؟ وهل هي استقالة بلا عودة؟ وهل ستكون استقالة من اي دور سياسي؟
فالكلام عن تململ جنبلاط من مآلات الوضع في بيته السياسي، يغزو الأجواء منذ نحو ثلاثة أشهر.
الاوساط السياسية والاعلامية في بيروت، رافقتها انباء عن تباينات بدأت مكتومة، ثم تكشفت لاحقاً لتصل الى حد الخلافات المعلنة بينه وبين نجله رئيس اللقاء الديموقراطي تيمور حيال الكثير من القضايا والملفات الساخنة الاساسية، وحول كيفية مقاربة الأمور خصوصاً في الأعوام التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وفي هذا الاطار، سرت لاحقاً معلومات مفادها ان جنبلاط في زيارته الاخيرة الى عين التينة، قد بث الى صديقه وحليفه الرئيس نبيه بري شكواه من امرين:
– ان نسبة قدرته على مساكنة هادئة مع زعامة نجله الطموح المتبني للتفكير التغييري القائم على الرغبة العارمة بمبارحة قواعد اللعبة السياسية التقليدية، وولوج اداء مختلف قائم على اسس معادلات مختلفة عن تلك المتبعة سنّي الحرب الاهلية وما بعد تطبيق اتفاق الطائف وما نتج منها من معادلات.
وعليه، لوّح جنبلاط امام مضيفه بأنه قد وضع في حساباته الضمنية إمكان “التخلي”، وترك حبل الأمور على غاربه لتيمور وفريق عمله السياسي، “لأنه لم يبق في قوس الصبر منزع”.
– بناء عليه، افصح جنبلاط لبري عن رغبته في أن يعذره اذا لم يقدر على الوفاء بمتطلبات علاقته به، وبالالتزام بموجبات هذه العلاقة وتفاهماتها العميقة التي عبرت على جسر من التجارب المرة والحلوة.
وفي المعلومات اياها، انه بعد خرج جنبلاط من عين التينة مطلقاً بعض المواقف التي تعبّر عن عدم ارتياحه لمسار الامور في الاقليم، فان المحيطين ببري خرجوا من عنده باستنتاج فحواه ان جنبلاط صار في صدد اللجوء الى “انتفاضة” في فناء بيته السياسي الداخلي، تروم الى هدفين:
الاول انه (جنبلاط) في صدد النزول عند طلب خليفته باعطائه فرصة خوض تجربته، وأمل ان لا يبقى ظل الزعيم المحتاج الى قيمومة وولي أمر أو في أحسن الحالات إلى مرشد.
الثاني، انه عازم على وقف العمل بالتزامات سابقة اعطاها إلى شركاء الساحة، ومن بينهم الرئيس بري والثنائي الشيعي تحديداً، والذريعة جاهزة: ثمة جيل يريد ان يلعب لعبته الخاصة ولا يريد شراكتي او حتى مشورتي.
وعليه، فان السؤال الذي تبادر على الاثر: لماذا تأخر جنبلاط حتى الآن عن هذا الفعل سواء كان انذاراً عابراً، ام أنه قرار نهائي، خصوصاً أن المبررات التي يتذرع بها كائنة منذ زمن بعيد؟
ثمة اقرار من الراصدين بوجود تعارض حقيقي بين جنبلاط ونجله لم يستطع زعيم المختارة ان يكتمه في محطات عدة. لكن ثمة من يضيف الى هذا التباين بين إبن يرفض العيش في جلباب والده السياسي من منطلق ان لكل زمن دولة ورجال وبين زعيم مطلق في ساحته لم يعتد يوماً عدم الانصياع لأوامره، عناصر اخرى قديمة ومستجدة تضافرت لتجبر جنبلاط على هذا الفعل الاستثنائي على عكس ما يشيعه عتاق حزبه من أن الأمر يندرج في نطاق آليات حزبية روتينية.
ففي صفوف مناوئين لجنبلاط من بيّن أن فعلته الاخيرة تبرهن على عدم قدرته على المضي قدماً في إدارته السابقة للأمور، وهي الادارة المتكئة على لعبة الاستفادة من الصراعات في الداخل والاقليم على حد سواء، باعتباره بيضة القبان الثابتة التي لا يمكن شطبها من أي معادلة.
اذ ان جنبلاط وفق هؤلاء، قد استشعر اخيراً أن الاحداث والتحوّلات قد سبقته، او بمعنى آخر فاقت قدرته على “التكيّف والاستيعاب”، ومن ثم العودة مجدداً الى صلب المعادلة الناشئة او القديمة – المتجددة.
وبمعنى اوضح، يستشعر جنبلاط منذ اتفاق بكين الذي اعاد فتح العلاقات بين طهران والرياض، ومنذ ان قرر النظام الرسمي العربي اعادة سوريا الى حضن الجامعة العربية وما واكب ذلك من اعادة اعتبار للرئيس السوري بشار الاسد، أن ثمة مرحلة جديدة رسمت حدوداً اكبر من قدراته على التعامل معها بالاسلوب الذي دأب على اتباعه، فوضعه ذلك امام خيارين احلاهما مر، إما التكيّف والتطبيع مع المستجد، او العودة الى مقولته السابقة القائمة على مبدأ الانكفاء والانسحاب والتوريث على الحياة خلافاً لتاريخية الزعامة الجنبلاطية.
وعلى سبيل المثال، فان هناك من يتحدث عن ان جنبلاط اقترح ضمناً في داخل بيته السياسي فكرة الانحياز الى خيار الرئيس بري الرئاسي في مقابل تعهدات وشروط، لكن درجة اعتراض تيمور على هذا الأمر كانت عالية خصوصاً وانه (تيمور) مقتنع بأن لا خير يرجى من الطبقة السياسية الحالية وانها باتت في طور النزاع الاخير، ولا جدوى تذكر من اعدة تنشيطها بجرعة دعم.
الى ذلك، ثمة من لا يخفي بأن جنبلاط يستشعر منذ زمن بأن تجربة الحزب الذي انشأه والده مع صفوة من النخب الفكرية والسياسية في مطلع عقد الاربعينات من القرن الماضي (بينهم العلامة عبد الله العلايلي والمفكر كلوفيس مقصود) وفي زمن انطلاق الافكار الاشتراكية، قد ادى قسطه واستنفد دوره، خصوصاً بعد ان صار مصطلح الاشتراكية منبوذاً.
وهناك من يروي ان جنبلاط، وبعد طيّ صفحة الحرب الاهلية وسريان اتفاق الطائف، قد فاتح الكثيرين بمسألة ماذا يفعل بالحزب لكي يكون له مكان، الى حد انه بحث في خيار تحويله الى حزب بيئي على غرار موضة الاحزاب التي راجت في العالم في ذلك الزمن، قبل ان تعود وتذوي.
ومع ان جنبلاط سبق وتعامل مع حزبه كعبء، فان السؤال المطروح هل استقالته الحالية نهائية ولاعودة عنها، واستطراداً هل تعني انه سيغادر الميدان نهائياً؟
تلك هي المسألة، خصوصاً ان جنبلاط عرض ذات يوم وكردّ فعل على ضيقه وضجره من الاحوال السياسية، انه مستعد لأن يغادر الى نيويورك للاقامة هناك والعمل كـ “زبال إن اقتضى الحال” .
الثابت أن جنبلاط لن يعمل زبالاً، ولكن الى اين قد يغادر هرباً وقرفاً من كل الاوضاع، وهو الذي جرب كل العهود وبنى الكثير من الرهانات الصائبة والخائبة في آن؟