كتبت عايدة الأحمدية
حبيب صادق الشاعرالملتزم والسياسي المثقف حلم بلبنان جديد تسوده العدالة والانسانية الا ان ازمة النظام والواقع الطائفي والعشائري والقبلي والثنائيات المتناقضة كلها كانت كفيلة بانهاء هذا الحلم٠
رغم الانكسار والخيبة كان لحبيب صادق الذي غيبه الموت مؤخرا بصمة فريدة ليس من موقعه في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي تحول على مدار سنوات مساحة للثقافة اللبنانية، فقط بل من تاريخه النضالي والسياسي الذي امتد لعقود من الزمن.
لن نخوض في مسيرة صادق الثقافية التي كانت حافلة بمحطات وعطاءات مضيئة، بل سنلقي الضوء على بعض المحطات السياسية البارزة في حياة ذلك السياسي النبيل. فخلال مسيرته السياسية سعى صادق الى تحقيق حلمه بوطن آخر، بدولة عادلة لكل أبنائها، لكن السياسة خذلته، واعترف من خلال كتاباته بشعوره الخيبة المريرة التي أصابته في معركة الحياة.
ولج حبيب صادق عالم السياسة على أمل أن يحدث فرقاً فاصلاً في معترك الانتخابات النيابية في وجه الاقطاع، في العام 1968 والعام 1972، بدعم من الزعيم كمال جنبلاط وبتحالف مع اليسار ضد لائحة الرئيس كامل الأسعد، وكاد صادق أن يصل إلى الندوة البرلمانية بحصوله على أكثر من 10 آلاف صوت في قضاء مرجعيون، إلا أن السلطة أسقطت ترشيحه عبر التلاعب بالصناديق. وفي العام 1977 تعرض الى محاولة اغتيال في وضح النهار بهدف إسكات صوته الحر.
لم يدخل صادق إلى البرلمان إلا في العام 1992 على لائحة “التنمية والتحرير”، ولكن المناضل المتميز والحر لم يستمر في الكتلة ليصبح نائباً مستقلاً.
في زمن الوصاية السورية وتحت عنوان “الانتصار للحريات والديموقراطية واحترام الدستور”، كان صادق في طليعة الداعين إلى تصحيح خطأ التمديد واستقالة رئيس الجمهورية أميل لحود، وتضامن صادق مع المواقف السياسية لوليد جنبلاط في مواجهة الضغوط التي يتعرض لها من أجهزة النظام نتيجة مواقفه من تعديل الدستور، وأطلق مع تسعة نواب آخرين مراجعة إبطال وطعن في شرعية التمديد لولاية لحود. ودعا إلى تجاوز حدود الاكتفاء برفض التعديل والتمديد والانخراط في صفوف المواجهة للولاية الممددة اللاشرعية التي فرضت فرضًا على الشعب اللبناني من الخارج.
واجه صادق بجرأة الوجود السوري في لبنان وآمن أن الجيش السوري ليس رادعًا أمنيًا، بل هو حاجز يقطع طرق التواصل والتفاهم والتصالح بين اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم. ومن هذا المنطلق أسس المنبر الديمقراطي العام 2004، الذي استقطب كل المعارضة اللبنانية في وجه الوصاية السورية، فجمع في المجلس كل المعارضين للوصاية.
وعند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، احتضن المجلس معظم الشخصيات المعارضة للحوار. أبرزهم وليد جنبلاط وأمين الجميل، وسمير فرنجية الذي كان يحضر يوميًا إلى المجلس لمتابعة التطورات، التي أفضت إلى الوصول لتنظيم اللقاء الحاشد في البريستول.
عقب خروج النظام السوري وانقسام البلد بين 8 و14 آذار سادت حالة استقطاب عظيمة شحنت كل الشعب اللبناني بكل أحزابه وانتماءاته وطوائفه، وانقسم لبنان عاموديًا بين فريقين سياسيين متقابلين. فكان لصادق موقف متميز، حيث دعا قوى الثامن من آذار إلى تلقف اللحظة التاريخية لبناء لبنان قائلاً: “ندعو إخوتنا في الوطن أن يسيروا معنا جنبًا إلى جنب ويدًا بيد من أجل بناء لبنان الحرية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعروبة”.
وبدل أن يتلاقى الأخصام على بناء لبنان الجديد الذي تحدث عنه صادق، تلاقوا على المحاصصة وجمعتهم المصالح الشخصية. فقبل انتخابات 2005 تبخر حلم صادق واللبنانيين بالتغيير، ودخل الأخصام في لعبة التسويات عبر الاتفاق الرباعي، حيث كان لكل فريق من فريقي “الاتفاق الرباعي” حزب الله وحركة أمل واللقاء الديمقراطي والقوى المسيحية وتيار المستقبل، أهدافه وحساباته السياسية والانتخابية، ما شكل ضربًة للحالة الشيعية المعارضة وعزز موقع ثنائية حزب الله وحركة أمل.
وتُرك حبيب صادق من حلفاء الامس وخاض المعركة وحيدًا من خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية، فشرع وحيدا في ترميم وضعه السياسي والانتخابي، لمواجهة سلطة التحكم بواقع الجنوب. لكنه فشل في جمع اليسار والقوى الديمقراطية، بعد سلوك البعض طريق التناغم مع الطوائف. فسقط رهان صادق على التغيير الديمقراطي وقال في تصريح أخير قبل انسحابه من المشهد السياسي أن “صفقة عقدت خارج المجلس النيابي للتسوية في الداخل للاستئثار بمغانم السلطة المقبلة على حساب العهود المعقودة والوعود المرسلة”.
حبيب صادق حاول من موقعه أن يحدث حالة تغييرية نحو لبنان جديد تسوده العدالة والديمقراطية، لكن أمله خاب بالسياسة وأهلها، وما كلامة في كتابه “في وادي الوطن” الا دليلا واضحا عن عمق الندوب التي احدثتها تلك الخيبة حيث يقول “كصائحٍ في واد ونافخٍ في رماد”. هذا المثل العربي المعبِّر كان يُضرب، وما يزال، في معرض الحديث عن “الخيبة المريرة” التي تصيب المرء في معركة الحياة، الخاصة والعامة، الحافلة بصنوف الثنائيات المتناقضة… ومن شأن هذه الثنائيات أن تصيب الفرد كما تصيب الجماعة بخيرها أو شرها. ولعلَّ أثرها المكروه أشد ما يكون إيلامًا وأفدح ما يكون إصابة إذا نزل بالعام جماعةً وليس بالخاص فردًا”
فكيف إذا كان هذا الخاص فردا في جماعة وجماعة في فرد.