قبيل ايام، ثمة من اعاد إثارة هذا السؤال بالحاح  وتحديداً في اعقاب رواج معلومات مؤكدة عن انفجار الخلافات بين وزير الداخلية بسام المولوي والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.

في الظاهر، ان هذا الخلاف الذي تداولته وسائل الاعلام هو خلاف اداري حول صلاحيات وتضارب رؤى حيال قضايا تخص هذه المديرية المهمة، ولكن في العمق يدور تأويل حول أن للخلاف بين مسؤولين سنيّين له صلة بالصراع حول وراثة الحريرية السياسية في الدولة. فالمولوي يقدم منذ زمن اوراق اعتماد الى من يعنيهم الأمر ليكون مؤهلاً لرئاسة الحكومة في المرحلة المقبلة، وهو قد قدم الكثير من اوراق الاعتماد للداخل والخارج، في حين ان عثمان ينظر اليه على انه الرمز الأول للحريرية السياسية ووجودها في الدولة العميقة.

وبصرف النظر عن دقة هذه المعلومات والمعطيات، فالثابت ان مثل هذا الكلام قد اعاد الاعتبار الى مسألة اساسية تطفو على السطح تارة وتختفي عن الانظار تارة اخرى، لكنها تبقى مسألة اشكالية في عمق المشهد السياسي اللبناني الهشّ وتوازناته الدقيقة، ويمكن تلخيصها بسؤال هو لمن الأمرة السياسية  للطائفة السنية في لبنان؟ واستتباعاً لمن ستؤول  مرجعية هذه الطائفة حاضراً ومستقبلاً؟ والى متى ستبقى على هذا الضياع؟

لا شك في ان طرح هذا السؤال قد ازداد الحاحاً خلال الايام القليلة الماضية، وتحديداً عندما طرح على بساط البحث مسألة الدعوة الى طاولة حوار وطني مقدمة لايجاد حل لمسألة الشغور الرئاسي.

 فالاشكالية الكبرى التي فرضت نفسها حيال ذلك الطرح الذي طال، تتمثل في من هي الجهة التي تملك اهلية تمثيل هذه الطائفة على تلك الطاولة لو نصبت؟

والسؤال يصير اكثر شرعية والحاحاً من خلال النظر الى امرين اساسيين:

– ان كل الطوائف اللبنانية الاساسية تبدو مرتاحة الى انها افرزت زعامتها وحددت الناطقين بلسانها.

 – ان ثمة اشكالية كبرى في داخل الطائفة السنية وان امكانات ايجاد حلول لها غير متوافرة الان. اذ فيما يسري كلام ان هذه الطائفة قد رهنت قرارها واسلمت قيادتها عن طيب خاطر للرئيس الحريري، وهي لذلك تنتظر عودته وايابه هو لأنّ احداً سواه لا يجرؤ لحد الآن على طرح نفسه كمنافس او بديل ووريث ليحل محله في رأس الهرم السياسي لهذه الطائفة، في حين ان استمرار غياب هذه الزعامة يعني بشكل او بآخر  فقدان الوزن السياسي المحوري  لهذه الطائفة،  واستطراداً غياب نصاب التوازن الوطني. ومصداقية ذلك، تكمن في ما هو حاصل حول موضوع الاستحقاق الرئاسي المسدود الافق منذ نحو عشرة شهور، اذ يبدو ان السجال حياله قائم بين المسيحيين والشيعة خصوصاً في حين يبدو نواب السنة وكأنهم حالات ملحقة او مهمشة.

 ومع ذلك، فان ثمة في بيروت من يتحدث صراحة وبلغة الشكوى عن ان هناك “مشيئة خارجية” تريد ضمناً ان يبقى النواب السنة الـ 27 على هذه الحال من تشتت الميول وانعدام الوزن. فهناك مثلاً من يتحدث عن ان للسعودية مونة كبرى وتأثيراً على ما بين 8 الى 10 نواب سنّة، في حين ان هناك عدداً يكاد يكون مماثلاً يفصحون بين حين او آخر عن انهم يوالون الحريرية السياسية وهم في حال سكون وكمُون بانتظار تعليماتها، وهم موزعون بين بيروت والشمال والبقاع. في حين ان هناك نحو 9 نواب يكشفون عن علاقة تحالفية مع حزب الله ومحوره، وهناك نائب واحد (اشرف ريفي) لا يكتم تحالفاً مع حزب القوات اللبنانية.

 وفي ظل استمرار التشتت الحالي في المشهد السياسي اللبناني، فان السؤال المطروح هو ما هو الاتي، واستطراداً اي مستقبل سياسي  ينتظر هذه الشريحة الاساسية من النسيج الاجتماعي والطوائفي اللبناني؟

 قبل ايام قليلة، كان لافتاً ومثيراً ظهور المفكر والكاتب السياسي والاكاديمي المعروف الدكتور رضوان السيّد على احدى شاشات التلفزة، مطلقاً كلاماً نوعياً بدا وكأنه امر عمليات جديد وتوصيف لطبيعة المرحلة المقبلة.

فالرجل الذي عرف بكونه منظّراً اساسياً للحريرية السياسية لأعوام طوال، قبل ان يقال انه انحاز الى فريق عمل الرئيس فؤاد السنيورة (مجموعة العشرين) الطارح نفسه وريثاً شرعياً لزعامة الرئيس سعد الحريري، ليقال لاحقاً انه ترك لبنان الى السعودية ليقيم هناك لفترة طويلة، قال في تلك الاطلالة النادرة: ان السعودية ستساهم في انتاج قيادات سنية جديدة في لبنان، وهي (السعودية) تريد ذلك وتراقب (ترصد) شخصيات عن كثب.

ويستطرد السيّد: اننا نرى عودة سعودية سياسية وانمائية قريبة الى لبنان.

 ولأن لهذا المفكر قيمة اعتبارية في النخبة السنيّة، فلا يمكن اشاحة النظر عن هذا الكلام واعتباره زلة لسان،  بل هو في رأي مراقبين معنيين ينطوي على بعدين:

 الاول، ان السعودية تتجه نهائياً الى قطع علاقتها بالرئيس الحريري وسحب دعمها له، وانه لم يعد في وجدانها مشروع زعامة سنية محققة.

 الثاني، ان الرياض التي بدت لزمن انها تنأى بنفسها عن الوضع اللبناني، قد عبرت الى مرحلة البحث الجاد عن خليفة وبديل يكون حائزاً على صفات تؤهله الامساك بزمام القرار في تلك الطائفة التي تبدو وكأنها سئمت ضياعها.

 وكلا الاحتمالين يعني امراً واحداً، وهو ان رحلة البحث الجاد عن زعيم سياسي للطائفة قد بدت لتوها ولا احد لديه علم اليقين عن المدة التي تحتاجها تلك الرحلة لتبلغ نهايتها المرجوة.

 ثمة من يقول في بيروت بأن “حراس هيكل”، أي ما تبقى من الحريرية السياسية، استشعروا منذ فترة واقع الحال وشرعوا في رسم خط اعتراض، لكنه خجول يتجلى في بعض مظاهر اثبات الحضور من خلال:

– حراك مضبوط ومقنن يقوم به الأمين العام للتيار احمد الحريري من خلال الظهور العابر هنا وهناك.

 – انشطة مضبوطة لرموز ومؤسسات تقدم نفسها على انها ارث الحريرية السياسية، ومثاله الابرز رئيس جمعية انماء بيروت احمد هاشمية.

 لكن في المقابل، ثمة من يروّج ان الحريرية السياسية قد “نزفت” الكثير من رموزها التاريخيين تحت وطأة دواع متعددة من امثال الرئيس السنيورة والنائب السابق عن طرابلس مصطفى علوش والنائب السابق احمد فتفت والوزير السابق محمد شقير الذي اطلق اخيراً تياراً سياسياً جديداً والصحافي راشد فايد، وسواهم العشرات الذين بدأوا يحفرون مسارب سياسية ليبرهنوا عن امرين: الاول انهم عبروا الى  فضاءات وحالات سياسية اخرى، وانهم لم يعودوا على يقين من ان عجلة الامور ستعود الى العصر الذهبي للحريرية السياسية.