كتب جورج حايك: منذ أشهر، تتسابق وسائل إعلام الممانعة والجيوش الالكترونية التابعة لـ(ا ل ح ز ب) و”التيار الوطني الحر” في شن حملات انتقادية وساخرة من رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع تهدف إلى تشويه صورته وتصويره أنه زعيم فاشل، وغير موفّق في رؤيته السياسية. وبدت هذه الحملات المشبوهة والكاذبة كأنها محاولة اغتيال سياسي لجعجع، مبنية على اجتزاء مواقف وآراء سياسية له بإستهداف واضح لمصداقيته السياسية وحسن تقديره للأمور.
حتماً أزعجت هذه الحملات محازبي “القوات” وأنصارها، واشتعلت مواقع التواصل الإعلامي بالسجالات الحادة، لكن مع مرور الأيام، اتضح أن رؤية جعجع لم تكن مخطئة، ولو بدت في وقتها غير مفهومة، ويبدو ان الأحداث التي تحصل في الإقليم تؤكد أن جعجع لديه معطيات بعيدة المدى، وتقديراته السياسية دقيقة ويمكن فهمها من خلال النقاط التالية:
أولاً، وجّهت انتقادات لجعجع لأنه تحفّظ ازاء ايجابيات الاتفاق السعودي- الايراني ولم يعوّل على الاتفاق كثيراً، إلا أن الوقائع تشير إلى صوابية تحفظات جعجع، فعلى الرغم من تبادل السفراء المخطط له ودعوة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة المملكة العربية السعودية، لم يحدث وقف للتصعيد. جولة حول المنطقة، من سوريا إلى حدود إسرائيل إلى مضيق هرمز، إلى اليمن، تؤكد رؤية جعجع. قادة إيران حاولوا أن يوحوا بأنهم يريدون تطبيع العلاقات مع جيرانهم. في الواقع، إيران لا تريد تقاسم المنطقة وليست قوة الوضع الراهن. هدف النظام هو إعادة ترتيب المنطقة بطريقة تناسب طهران، ومع وعد السعوديين بالاستثمار في ايران، قرر الإيرانيون أنهم أصبحوا الآن أكثر حرية لدفع أجندتهم. بعبارة أخرى، لا تهدئة. وبناء عليه ارجأت السعودية إعادة فتح سفارتها في طهران. والمسألة ليست بسيطة بل تتعلق بموضوع ملكية حقل الدرة والجزر الثلاث، إذ جددت الرياض في بيان مطالبة طهران بالتفاوض حول حصة الكويت من حقل الدرة النفطي الذي لا يزال محل خلاف بين الطرفين. كل هذه المؤشرات، يمكن عطفها على العجز عن تحقيق اي خرق ايجابي في ملفات اليمن والعراق والوجود الايراني في سوريا والازمة السياسية في لبنان والتي اتخذت ايضاً شكلاً “عسكرياً” في عين الحلوة. يبدو ان اتفاق بكين يخضع اليوم لاعادة درس في الرياض، إذ تبيّن ان طهران التي وعدت بالتهدئة وتسهيل الحلول وايضاً بتطبيق سياسة حسن الجوار، لم تف بوعودها، بل بادرت الى التصعيد وفي ملفات تمس مباشرة الامن الخليجي، كحقل الدرة، وواصلت استفزازها للخليجيين وحلفائهم عبر مناورات عسكرية بحرية. وهذا ما كان يراه جعجع منذ البداية الذي يعرف من خلال مواجهته لـ”ا ل ح ز ب” في لبنان وايران خلفه، انها لا تلتزم بوعودها ولا يصلح نظامها المارق لأي اتفاق.
ثانياً، تلقّى جعجع انتقادات على خلفية كلامه عن عدم ثقته بالنظام السوري وامكانية التزامه بالشروط الخليجية تتويجاً لعودته إلى الجامعة العربية، وخصوصاً أن جعجع يعرف بأن رئيس النظام بشار الأسد ليس الحاكم الفعلي بل هو مجرد “جثة” سياسية على رأس النظام في سوريا لا قيامة لها، وقد اعتبر جعجع ان كل ما يفعله الخليجيون تجاهه هو جهد ضائع، ولن يستفيدوا شيئاً من “الانفتاح” والتطبيع معه لأنه في الحضن الإيراني من دون رجعة.
لم يمض شهران على حضور الأسد لقمة الجامعة العربية، حتى صدقت تقديرات جعجع، ففي المعلومات الواردة من السعودية فقد ابلغت سوريا انها اوقفت فتح السفارة السعودية في دمشق، وانه غير مرحب بالسفارة السورية في الرياض لعدم التزام الأسد ما اتفق عليه في القمة العربية ومبدأ الخطوة خطوة. وان السعودية خائبة من اداء النظام السوري، وتعتبر انه لم ينفذ تعهداته لا تجاه الوضع الداخلي في سوريا، ولا تجاه ضبط الحدود السورية ومنع تصدير الكبتاغون الى الاردن ودول الخليج…
وكانت رؤية جعجع السياسية في ما يخص الشأن السوري بأن المعركة لم تنته، ولو انتصر الأسد في جولة بفضل الدعم الروسي والايراني، فالجولات الأخرى آتية، وها هو التوتّر الأمني والعسكري يتصاعد على أرض سوريا بين أميركا وروسيا، وبين تركيا والنظام السوري، وبين شرق الفرات وغربه، ونحن على قاب قوسين أو أدنى من حصول تطورات كبيرة وكبيرة جداً في الشمال السوري، ترافقها تطورات عسكرية ضاغطة شرقي سوريا، وصولاً الى الجنوب السوري حيث يصبح نظام الأسد محاصَراً حتى الموت والاختناق ما لم تنفجر في وجهه ثورة حاضنته الشعبية عليه وعلى عائلته.
جعجع كان دائماً على حق، ولو خذلته بعض التفاصيل الصغيرة التي لا قيمة لها أمام التحوّلات الكبيرة، وهناك إعادة خلط للأوراق في المنطقة، والمسار المنطقي للأمور، وفق رؤية جعجع، انه لا يُمكن التفاهم مع النظامين الايراني والسوري لأن عقيدتهما مبنية على الخداع وحبّ السيطرة والعنف وعدم احترام العيش الكريم للإنسان وحقوقه.
ثالثاً، في البعد السياسي اللبناني إتّهم رئيس “القوات” بأنه لا يقوم بحسابات سياسية دقيقة، إنما في الواقع فهو ينطلق من معطيات معينة بأن لبنان شهد انهياراً كبيراً نتيجة مشروع “ا ل ح ز ب” ومعادلة “السلاح والفساد” التي اعتمدها مع “التيار الوطني الحر”، وقد آمن جعجع بوسيلة وحيدة للتغيير من دون دماء ودمار وخراب هي الانتخابات النيابية، وبالفعل خاض الانتخابات بكل جدية وحقق انتصاراً باهراً، وتمكّن مع بعض الحلفاء من تكوين كتلة نيابية وازنة شكّلت العمود الفقري للمعارضة للدفاع عن القرارات السيادية والاصلاحية، حتى ولو تطلب الأمر مواجهة سياسية قاسية. وبفضل صمود هذه المعارضة، أفشل جعجع وحلفاؤه محاولات الجيوش الالكترونية التابعة لـ(ا ل ح ز ب) بفرض رئيس جمهورية ممانع، وهو مؤمن بأن المعركة تتطلب نفساً طويلاً، ولا بد من الانتصار على كل من يتآمر ضد لبنان ومصلحة شعبه وخصوصاً محور الممانعة السائر عكس الحضارة الإنسانية العالمية والعصر والتطوّر.
صدق البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي وصف جعجع بـ”الناسك والمخطط والمفكّر”، مستطرداً “هذا ما يجب أن يفعله، إذ ان الكتاب المقدّس يقول “الويل لشعب ليس فيه من يفكّر”.