كتب جورج حايك: ارتفعت أصوات عدد كبير من المواطنين بعد حادثة الكحالة تطالب “القوات اللبنانية” بالتسلّح والدفاع عن الوجود ضد مشروع (ا ل ح ز ب) الذي يكدّس السلاح على نحو مريب وليس لمصلحة لبنان وشعبه، لكن خيار “القوات” بقي رافضاً للإنجرار إلى الشارع والعنف، فما هي اعتباراتها؟
حادثة الكحالة لم تكن منفصلة عن حوادث سابقة مشابهة استخدم فيها (ا ل ح ز ب) سلاحه ضد الشعب اللبناني، وقد سبقتها حوادث في بيروت وخلدة وشويا وعين الرمانة، و”الحبل عالجرار”.
بعد كل حادثة، تتوجّه الأنظار إلى الأحزاب المعارضة، وأكثرها تنظيماً هي “القوات اللبنانية” التي تعتبر حزباً آتياً من خلفية عسكرية مقاومة طوال الحرب اللبنانية، وفي رصيدها آلاف الشهداء الذين سقطوا في مواجهة الاحتلالين الفلسطيني والسوري. وقد يكون من البديهي أن يفكّر اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً بقوّة تشكّل توازناً مع (ا ل ح ز ب)، فتقف بكل الوسائل لردع هيمنته وتمدده، وخصوصاً أنه حزب مذهبي يحمل عقيدة دينية مستوردة من ايران، ولا يشبه الحالة اللبنانية.
صحيح ان “القوات” رأس حربة ضد (ا ل ح ز ب) سياسياً، وتقوم بمواجهته دستورياً وديموقراطياً واعلامياً وشعبياً، ولا شك في انها تحقق نقاطاً عليه في ميادين عديدة، وخصوصاً على صعيد الاستحقاق الرئاسي، إذ استطاعت مع حلفائها أن تمنع وصول مرشحه الممانع سليمان فرنجية إلى الرئاسة.
لكن عندما تحصل احتكاكات في الشارع، ينتظر كثيرون ردة فعل من “القوات” كحزب مقاوم ذي خلفية عسكرية، وهذا ليس مستغرباً لأن جيل السبعينات والثمانينات وحتى الجيل الجديد، يعرف أن “القوات” خاضت معارك للدفاع عن الوجود المسيحي والكيان اللبناني، إلا أن بعض هؤلاء يصابون بخيبة أمل، لأن “القوات” ترفض التورّط في أي مواجهة في الشارع تؤدي إلى قتلى وجرحى، ليس خوفاً إنما لإعتبارات كثيرة.
في حادثة الكحالة بدت “القوات” متفاعلة لأن كثراً من أهالي الكحالة ينتمون إليها أو يُعتبرون من أنصارها، ومع ذلك، لم تتورّط كحزب في الاشتباكات، ولم تحضّ أحداً على استخدام السلاح، ولم تفعل ذلك في اي حادثة سابقة كان (ا ل ح ز ب) طرفاً فيها، إلا أن نوابها ومسؤوليها سارعوا إلى تحميل (ا ل ح ز ب) أولاً مسؤولية عبور شاحنة السلاح في بلدة سكنية آمنة، وثانياً استخدام السلاح ضد أهلها الناقمين ككل اللبنانيين على مشروع (ا ل ح ز ب) واستمراره في تكديس السلاح وتعريض لبنان للمخاطر.
إثر حادثة الكحالة، أطل كثير من المواطنين على وسائل الإعلام يطالبون “القوات” بتسليحهم أو العودة إلى المقاومة العسكرية للدفاع عن الوجود الذي يشعرون أنه بات مهدداً من (ا ل ح ز ب). طبعاً لم تستجب “القوات” لهذه الأصوات الغاضبة والجريحة، فإعتبرها البعض خائفة من مواجهة (ا ل ح ز ب) في الشارع، لكن في الحقيقة، ليست “القوات” حزباً مراهقاً، بل هي اكتسبت نضجاً كبيراً من خلال أعوام المقاومة والنضال والتجربة السياسية، وخصوصاً رئيسها سمير جعجع الذي يستحق لقب “السياسي المحنّك” الذي يعرف أن يضع قدميه، ومتى يبادر أو يبقى صامتاً، وربما صمته يكون معبّراً أحياناً.
لكن ما يجب أن يعرفه الكثيرون من المواطنين الغاضبين من (ا ل ح ز ب) والمراهنين على “القوات”، النقاط التالية:
أولاً، لم يعد لـ”القوات” تنظيماً عسكرياً منذ تسليم سلاحها عام 1990 تطبيقاً لإتفاق الطائف، وتحوّلت حزباً سياسياً مشروعه حرية الإنسان اللبناني وكرامته والتعددية والدولة القوية، من دون أن تتخلى عن نفسها النضالي المقاوم الذي عُرفّت به لكن من دون سلاح، وهي تواجه مشروع (ا ل ح ز ب) الظلامي بشراسة عبر كل الوسائل السياسية المتاحة، لذلك يبادر إلى مهاجمتها وتخوينها واستهدافها كلّما سنحت الفرصة.
ثانياً، قد يكون حلم أحلام (ا ل ح ز ب) أن تعود “القوات” إلى التجربة العسكرية ليبرر أكثر احتفاظه بالسلاح، ويجر البلد إلى صراع طائفي ومذهبي، وربما مخططه أكثر من ذلك، فهو ينتظر من “القوات” خطأ مثل خطيئة التسلّح في الوقت الحاضر ليضعها في مواجهة الجيش، فيتحرر (ا ل ح ز ب) من مأزوميته في الملف الرئاسي، وينقض عليها مستخدماً ورقة الجيش ضد ما تمثله لدى المسيحيين، مما سيكون ضربة قاضية على “القوات” و”المسيحيين”، علماً أن (ا ل ح ز ب) واقعياً هو الأكثر جهوزية عسكرياً، وتحتاج “القوات”، لو رغبت افتراضياً بتجهيز نفسها وقتاً طويلاً، وهذا ليس لمصلحتها.
ثالثاً، لا أحد يريد حرباً في لبنان محلياً ودولياً، وبالتالي الظروف غير مؤاتية لمثل هذه الخطوة، و”القوات” تعرف ذلك بفعل علاقاتها مع فاعليات المجتمع اللبناني وعلاقاتها الدولية، إضافة إلى ان مشروعها هو الدولة ولن يتوقّف رهانها على الجيش اللبناني طالما هو موحّد، وحتى لو ارتكب بعض الأخطاء في خياراته وادائه. ويجب أن لا ينسى أحد بأن المسيحيين في حرب 1975 لم ينخرطوا في الحرب إلا بعد إنقسام الجيش، كما أن المراجع الروحية المسيحية ترفض كل أشكال العودة إلى العنف، حتى ولو كانت ممتعضة من تصرفات (ا ل ح ز ب)، فهل من المنطقي أن تتجاوز “القوات” كل هذه الاعتبارات وتذهب عكس المسار الطبيعي للأوضاع؟
رابعاً، لا يتحمّل الشعب اللبناني حرباً جديدة في ظل الأوضاع الإقتصادية والمعيشية المتردية، بل يعيش لبنان حالة انهيار على كل الصعد، وبالتالي أي حرب ستكون قاضية على الفكرة اللبنانية، وستفتت لبنان إلى أجزاء متعددة غير مستقرة.
خامساً، ما تحققه “القوات” في السياسة ربما يحتاج إلى نفس طويل، وقد يكون كثر من الناس لا يتمتعون بالنفس الطويل نتيجة الاحتقان والغضب، إلا انها في وضعية أفضل بكثير من (ا ل ح ز ب)، فهي تشكّل مع المعارضة كتلة متراصة نجحت في منعه من فرض رئيس، والرفض الشعبي له يتزايد، ودولياً لا يستجيب أحد لمطالبه ورغباته بإجراء صفقات على حساب لبنان، بدليل ان بيان اللجنة الخماسية الدولية لم يكن لمصلحته، فلماذا تقدّم له “القوات” ورقة للهروب إلى مواجهات في الشارع يكون طرفاها حزب ضد حزب؟ وبالتالي لن تنجرّ “القوات” إلى ملعبه وستبقيه في آتون مأزوميته يحترق، ولو زادت استفزازاته. علماً أن هناك ضغطاً شعبياً على المؤسسة العسكرية لتقوم بدورها في التعامل مع (ا ل ح ز ب) بحزم أكثر، وهذا يصب في مصلحة “القوات” والشعب اللبناني.
هذا لا يعني أن “القوات” سترضخ لإعتداءات (ا ل ح ز ب) على المواطنين، بل تطمئن قيادتها إلى أنها ستصعّد أكثر في السياسية، ولن تساوم ولن تتراجع، بل ستبقى في الصفوف الأماميّة للمواجهة دفاعاً عن قيمهم وحرياتهم وحضارتهم وسيادتهم وحقهم في العيش بسلام وأمان واستقرار. وهي لم تتوقف يوماً عن بذل التضحيات وكانت آخرها منذ أسبوعين عندما تم اغتيال عضو المجلس المركزي في “القوات” الياس حصروني في عين ابل. وهذا ما كانت تفعله في المرحلة العسكرية، فقدّمت آلاف الشهداء ولم تقبل أن يسلّم البلد إلى المحتل، والآن ستستمر على الخط نفسه، مهما بلغت التضحيات، كي يكون في البلد جيش واحد لا جيشان، وسلاح واحد لا سلاحان، ودولة واحدة قوية، حرة، سيدة ومستقلة وحيادية، وهذه القناعة لن تتخلى عنها.