بات بإمكان التيار الوطني الحر بعد الجولة الجديدة لجان إيف لودريان أن يقول مرة جديدة، وبلهجة أقرب إلى التواطؤ، ألم أقل لكم سابقاً إن هذا المسار سيقود إلى الفشل؟! ذلك أنَّ فحوى ما أسرّ به لودريان لمن التقاهم، هو أن مرشح الثنائي الشيعي سليمان فرنجية لم يعد مطروحاً، وبمعنى أوضح وأكبر، بات المسار الرئاسي اللبناني بين طي مرحلة والدخول إلى مرحلة جديدة لم تتوضح معالمها بعد.
أُنهِكت فرنسا بالحائط المسدود الذي اصطدمت به أكثر من مرة. رفعت رهاناً لا يستند إلا على الأخذ بعين الإعتبار موازين القوة الشيعية السياسية في لبنان. أصرت “خلية الأزمة” وباتريك دوريل على منطق الفرض وتجاوز كل الإعتراضات ولو بالقوة، لكن تبيّن أن المسيحية السياسية في لبنان لا تزال تملك أوراقاً عدة على المستويات كافة، تمكنها من إحباط ما لا تريده، بل ما تلفظه في التعاطي الفوقي.
هذا الإنهاك أوصل لودريان إلى المرحلة التي يقرّ فيها بفشل كل تلك الرهانات، ولو بلغة ديبلوماسية تريد الحفاظ على ما تبقى من شكل، وتفتح الطريق أمام معالجات دولية مختلفة للملف الرئاسي.
هنا، يصبح موقف قيادة التيار الوطني الحر أكثر ثقةً في استقبال لودريان. ذلك أن الكلام المعلن لموفد الجمهورية الفرنسية لا يزال نفسه، في وقت يحمل معه متغيرات المرحلة السابقة. واللازمة المتكررة لجبران باسيل باتت لصيقة بكل الطروحات التي قدمها لمقاربة رئاسة الجمهورية في شكل مختلف عن المقاربات السابقة ولا سيما تلك ما قبل وصول العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ولاتي كانت تستند في شكلٍ أساسي على التمثيل المسيحي في بيئة المرشح للرئاسة. لكن بعد الولاية جرت مياه كثيرة تحت نهر المخاض اللبناني الكبير، فباتت هناك خارطة طريق وأولويات مالية واقتصادية، وصولاً إلى فتح المنافذ في النظام السياسي المعطل والمشلول عبر اللامركزية.
لكن ما لدى “التيار” لا يقتصر فقط على وصول المسار الفرنسي إلى ما كان حذّر منه سابقاً لجهة فرض فرنجية. فللحوار الذي يُستَعاد في كلِّ مرة إنقاذاً للنظام والطائف، ضوابط تحميه من “الشطط” الذي يمكن أن ينزلق إليه في ظل مبادرة رئيس المجلس نبيه بري، مع تحديد الموضوع والمدة الزمنية والأولويات الرئاسية، وألا يكون مجرد استعراض يعوّم به أركان المنظومة أنفسهم.
هذه الضوابط بالنسبة للتيار من شأنها أن نجاحاً لحوار لا يمكن أن يتحقق خرق رئاسي من دونه. وهنا، يقدم العونيون أنفسهم واقعيين كما في مقارباتهم منذ انتهاء ولاية الرئيس عون، فيفترقون عن المقاربة السلبية والمتشددة لرئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، الذي يرفض فحسب من دون تقديم البديل، والذي يعلم جيداً هو وأفرقاء المعارضة الآخرين أن محاولة تكرار الجلسة الأخيرة لمجلس النواب وفرض رئيس من دون مشاركة حزب الله و”أمل” هو أمر عبثي قبل أن يكون انتحاراً في السياسة ومنزلقاً خطراً يؤدي إلى مواجهة فعلية.
وبين مقاربة بري ومحاذير حوراه غير المضبوط، والتراجع إلى شرنقة محصورة كما في حالة جعجع، لا يرى “التيار الوطني” نفسه إلا مقدماً أجوبةً عملية للخروج من النفق، من دون أن يغفل عن الحوارات والتحركات الدائرة على أكثر من محور لبناني – إقليمي – دولي، ولا سيما الموقف السعودي الذي سيتبلور أكثر فأكثر من الرئاسة ومرشحيها المعلنين.
وفي وقت لا يزال المسار الرئاسي راهناً بين عدم ظهور البديل، وتحديداً في سياق ما لا تريده معظم القوى السياسية من دون أن تُفصح عما تريد، يستمر ويتواصل المسار التفاوضي مع حزب الله من دون أن يصبح بديلاً عن الحوار الرئاسي الوطني الواسع. على أن تطور مسار الحوار الثنائي ووصوله إلى نتائج ملموسة، من شأنه أن يدعم الحوار الأوسع بمادة أساسية من التوافق حول قضايا بالغة التأثير في التحول في نظام الطائف وفي طليعتها اللامركزية، التي باتت عنواناً لنقاش بين تصورات وأوهام من جهة، ووقائع المجتمع اللبناني مالياً واقتصادياً وتنموياً، من جهةٍ أخرى.