كتب جورج حايك: اليوم 16 تموز عيد القديس شربل مخلوف من الرهبانية اللبنانية المارونية، وقد تحوّلت محبسته الرابضة على قمة عنايا محجة لكل الطوائف في لبنان بمسيحييه ومسلميه. قلّما نجد قدّيساً معاصراً، عاش في زمن ليس بعيداً من زمننا، وفي الأرض التي نقيم فيها اليوم وفي الظروف البائسة التي نعيشها اليوم، تأمّل وصلّى إلى الله بصمت رهيب حتى أوصله ذلك إلى ان يكون من أعظم المبشّرين بالقيم الروحيّة الخالدة وبرسالة السماء الأزليّة، فكان بحقّ المعلّم الصامت الذي دوّن أصداء أعماله وسيرة حياته في أعماق النفوس المؤمنة التي تلجأ اليه بكثافة، فالإنسان تبهره العجائب والمعجزات التي تحصل بشفاعة القديس شربل، إلا أن صانعها هو المسيح الذي اقتدى به شربل وكان سكراناً به وبتعاليمه طوال حياته، وها هي النتيجة: النور ينبعث من قبره، المرضى يشفون، عاقر تنجب ودموع تذرف من عيون القديس، وناس عاديّون يدّعون تلقّي رسائل منه ويروونها لإخوانهم. لكن من المؤسف أن يختصر بعض الناس رسالة القدّيس شربل بتفوّقه في صنع العجائب وباللجوء إليه عند كلّ مصيبة ليحقق المعجزات.
فأهمية هذا الرجل البار تكمن في حياته النسكيّة. مشوار شربل كان طويلاً ومتعدّد المراحل، بدأ في سنّ الطفولة. ثم في دير مار انطونيوس قزحيا حيث التقى خاليه اغسطينوس ودانيال الشدياق من بشري.
إبن بشري، إبن بقاعكفرا أعلى قرية في لبنان، حيث يتميّز أهالي الجرد بالقساوة والصلابة، وهو لا يختلف عنهم كونه عاش في بيئتهم وشرب من مياههم وأكل من طعامهم وترعرع في طبيعتهم وعاش في ريعان شبابه جزءاً من تقاليدهم ، ولا بد من انه ورث طباعهم. لقد أخضع نفسه للتأديب الذاتي وأجرى ما يشبه عمليةّ جراحية خلال اقامته في المحبسة، استأصل فيها كل دمل العناد والقسوة حتى أصبح كنعجة بين يديّ سيّده، متعطّشاً لتذوّقه في سرّ القربان الأقدس.
وفي بداية حياته الرهبانية في دير كفيفان، وبعده في دير عنايا، كان يركع على الأرض بخشوع عميق، شاخصاً إلى بيت القربان ساعات طويلة، متخلياً عن حواسه، كإنسان مولع بالله ولعاً شديداً. عاش في هذه الدنيا بجسده فحسب، أما قلبه وعقله فكانا في السماء.
وفي المحبسة حين كان يستحيل عليه العمل في الخارج بسبب الثلج والصقيع، كان يمضي وقته في محادثة الله أمام القربان الأقدس. كان يحب الإقامة طويلاً هناك. قبل خروجه من قلاّيته صباحاً إلى العمل كان يذهب إلى الكنيسة ويمكث فيها نحو خمس ساعات متتالية، يصرفها في التأمل والاستعداد للقدّاس، جاثياً على طبق من قصب.
كان يطيب له التأمّل في جمال عذراء العذارى، أمه السماوية. ومن دلائل حبه لها المواظبة على تلاوة ورديتها كلّ يوم. فالطقس المارونيّ يحدّثه عنها في كلّ حين،
ففي القداس كما في صلاة الفرض، يحتل ذكر العذراء، بعد الثالوث الأقدس، مقاماً ولا أحب! تلك الصلوات كان يردّدها بحرارة تزداد يوماً بعد يوم. وخلال احتفاله بالذبيحة الالهيّة في محبسته، كانت تظهر على وجهه علامات تقوى غير اعتياديّة، منخطفاً عن حواسه.
إن صمته الكبير وسكونه كانا في الواقع شرطاً وثمرة في آن لحياته مع الله واتحاده به، إذ كانا يسهلان عليه الاصغاء إلى الله والتحدّث معه. فالزهد والصمت لا معنى لهما لولا شغفه بشخص المسيح وبوالدته مريم.
سرّ نسك شربل كان ليتورجيّا القربان اليومية التي شكّلت محور حياته. والعمود التأمليّ النسكيّ الذي اعتاد تسلّقه يومياً كان يقوم على الاماتة وضبط الأهواء ثم التأمّل بالقربان الأقدس وأسرار المسيح، وصولاً إلى الانخطاف الكلّي والارتقاء إلى الخالق والاتحاد به.
لم يبلغ شربل ما بلغه من قداسة واتّحاد بالله بقوة البراهين العقليّة ولا بالاعتماد على قواه الشخصيّة، لكنه تسلّح بقوّة الصلاة الدائمة، أي بقوّة الاتّحاد الوثيق بالله ومعرفته له ومحبته اللامحدودة. كان حبيب الله.
فالمحبسة الرابضة على قمة جبل عنايا، شكّلت مكاناً لرياضة روحية مستدامة، ساعدته على التركيز. فغاص في عزلة كليّة مصغياً، حين تنام الدنيا حواليه، إلى الهمسة الالهية التي تميت لتحيي:”أنا الطريق والحق والحياة”.
شعر شربل أنّ الفادي الإلهيّ يدعوه باستمرار ليلج الأعماق، فأغمض عينيه عن هذا العالم ليفتحهما على الكنوز الالهيّة:”ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، ما أعده الله لمختاريه”(1 كور2/9)(1).
فعّل عمل النعمة في داخله وغاص في أعماق ذاته، بالتأمّل والصلاة، فغمرته النعمة وملأت كل ثنايا حياته.