كتب جورج حايك: مرة بعد مرة تثبت الديبلوماسية الفرنسية فشلها في تسجيل خرق على صعيد الملف الرئاسي في لبنان، وخصوصاً مع جولات الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الذي استفزّ نواب المعارضة برسالة تكاد تطيح بمهمته نتيجة تكريسها لمنطق الممانعة في تجاوز آليات الانتخاب الدستورية الديموقراطية بما يسمّى الحوار الوطني، فما الذي أصاب فرنسا بإدارة رئيس جمهوريتها ايمانويل ماكرون؟
يبدو أنه منذ 4 آب 2020 تتوالى خيبات الأمل الفرنسية في تعاطيها الديبلوماسي مع لبنان، إذ أتى ماكرون إلى لبنان عقب انفجار المرفأ في بيروت، مطلقاً مبادرة لتشكيل حكومة إنقاذ، إلا أنه فشل في ظل تعنّت الثنائي الشيعي عن القبول بحكومة اختصاصيين مستقلة، وأكمل مسلسل الخيبات مع إطلاق معركة انتخاب رئاسة الجمهورية، إذ عاد ماكرون إلى إطلاق مبادرة ثانية تفضي الى إقناع المعارضة اللبنانية بانتخاب مرشّح (ا ل ح ز ب) سليمان فرنجية، فتمكنت المعارضة من إفشال المبادرة لأنها تراعي مصالح (ا ل ح ز ب) على حساب الدولة اللبنانية، غير آبهة بالتوازنات السياسية اللبنانية.
أما المبادرة الفرنسية الثالثة، فجاءت بعد تكليف جان ايف لودريان كموفد رئاسي فرنسي إلى لبنان، حاملاً معه مشروع حوار وطنياً برعاية فرنسية يكون موضوعه الاستحقاق الرئاسي.
لكن بدأت معالم الإخفاق الفرنسي تظهر بعد رسالة وجهها لودريان إلى نواب المعارضة اللبنانية للإجابة عن سؤالين: الأول “ما هي بالنسبة إلى فريقكم السياسي المشاريع ذات الأولوية المتعلقة بولاية رئيس الجمهورية خلال السنوات الست المقبلة؟”، أما السؤال الثاني فكان “ما هي الصفات والكفاءات التي يجدر برئيس الجمهورية المستقبلي التحلي بها من أجل الاضطلاع بهذه المشاريع؟”.
لا شك في ان هذه الرسالة كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وشعرت فيها المعارضة ان الفرنسيين لا يزالون يتعاطون مع الأزمة اللبنانية بعين واحدة، بل تعامل لودريان مع نواب المعارضة بفوقية كأنهم تلامذة يخضعون لإمتحان، إضافة إلى موقفهم الرافض للحوار أصلاً، وهم ليسوا مع استبدال تطبيق الدستور بحوار خارج المؤسسات سواء كان برعاية خارجية أو داخلية، مشدداً على ضرورة العودة إلى الآلية الدستورية لانتخاب رئيس للبلاد، عبر فتح دورات متتالية للجلسات، لا الاستسلام لمنطق الثنائي الشيعي الذي يطيّر نصاب الجلسات النيابية كما حدث في 12 جلسة خلال عام واحد، الأمر الذي يتسبب بالفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية وينسحب على عديد من المؤسسات الأساسية للبلاد. وبالتالي طالبت المعارضة الفرنسيين بالضغط على القوى المعرقلة لانتخاب الرئيس.
هذا الأداء الفرنسي المشبوه، أفقد المعارضة الثقة بلودريان الذي أصبحت زيارته الثالثة إلى بيروت في الأسبوع الأول من ايلول المقبل محكومة بالفشل، وبات من الضروري طرح سؤال أساسي: لماذا تتجاوز فرنسا-ماكرون بيان اللجنة الخماسية؟ وما الذي يدفعها إلى ارضاء رغبات (ا ل ح ز ب) واعطائه الأفضلية؟
قد يفهم البعض الاداء الديبلوماسي الفرنسي من باب الواقعية، لكنه في الحقيقة لا يُفهم لبنانياً إلا ان لودريان وقع في فخ الثنائي الشيعي الذي بدأ يشترط الحوار منذ العام 2006، أي إنّ هذا الثنائي هو المسبِّب للأزمة اللبنانيّة منذ خروج الجيش السوري من لبنان، والحوار هو الاسم الحركي للفيتو الشيعي الإيراني، بمعنى انه استبدل مصطلح الفيتو بمصطلح الحوار، فلا رئيس للجمهورية من دون موافقته.
والمستغرب ان لودريان في زيارته الأخيرة للبنان سمع كلاماً في لقاءاته مع القوى السياسية المعارضة برفض الحوار لأنه يعني المجازفة بانتخابات رئاسيّة عن طريق اعتماد الآليّة الانتخابيّة التي قد تؤدّي إلى انتخاب رئيس للجمهورية يعارضه هذا الثنائي، ولو لم يعطِّل مثلاً النصاب في الجلسة رقم 12 في 14 حزيران الماضي لكان انتخاب الوزير السابق جهاد أزعور رئيساً للجمهورية.
وشرحت المعارضة للودريان بأن الحوار في الموضوع الرئاسي يعني الخروج عن النصّ الدستوري والذهاب في اتّجاه تكريس عرف جديد خلافًا لاتفاق الطائف، لأنّ الانتخابات الرئاسية تحصل في البرلمان وفقاً للآليّات الانتخابيّة المعروفة، ومن الواضح أنّ الثنائي الشيعي الذي انتزع الثلث المعطِّل في اتفاق الدوحة خلافاً لاتفاق الطائف، وسعى لتكريس الميثاقيّة المذهبيّة بدلاً من الميثاقيّة الوطنيّة المسيحيّة-الإسلاميّة، يريد اليوم عن طريق إصراره على الحوار أن يكرِّس هذا الحوار مدخلاً إلى أيّ انتخابات رئاسيّة بدلاً من البرلمان.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مصلحة فرنسا باستبدال انتخاب رئيس للجمهوريّة بالحوار كمدخل للانتخابات الرئاسية؟ باتت المعارضة تشعر ان هناك مصلحة منفعية أو شبه صفقة بين فرنسا و(ا ل ح ز ب)، وتعارضت المبادرة الفرنسية الثالثة مع اللجنة الخماسية بثلاث نقاط:
أولاً، لم تحترم فرنسا ما ينصّ عليه اتفاق الطائف لجهة أنّ انتخاب الرئيس يحصل في البرلمان وعبر صندوقة الاقتراع وليس على طاولة الحوار.
ثانياً لم تحترم إرادة اللبنانيين التي لا تسمح بغلبة فريق على آخر، وضرورة انتخاب رئيس من المساحة المشتركة التوافقية، وترويجها السابق لفرنجية يشجّع على الغلبة.
ثالثاً، فشلت في تقدير ميزان القوى الذي لا يسمح لأي فريق بانتخاب مرشحه، وأنّ قيام الدولة بدورها لا يكون بالتوافق وعلى قاعدة التوفيق بين الدولة والدويلة، وبالتالي كان على فرنسا أن تكون بموقع المشجِّع على دور الدولة وليس تكريس الأمر الواقع المريض وتأبيده.
كلمة حق تُقال أن احدى قيم لبنان الأساسيّة أنّه يحمل من تراث الثورة الفرنسية شعار “حرية، مساواة، أخوة”، والرئاسة فرنسيّة معنيّة بنشر هذه المبادئ والقيم من أجل عالم أفضل تسوده المساواة بين البشر على قاعدة الحرية، ولا يمكن للبنانيّين التصديق أنّ فرنسا تعمل في سياستها الخارجية خلافًا لهذه الثلاثيّة التي تشكل عصارة تجربة تاريخيّة لمستقبل واعد للبشرية.
يُفترض أن تكون باريس مؤتمنة على شعار ثورتها، وأن تكون رأس حربة الدفاع عن قيمها، وأن يكون تعاملها مع لبنان وأي دولة في العالم في الضفة التي تحمل قيمها ومبادئها وثقافتها، وليس أن تكون إلى جانب القوى التي يشكّل دورها ومشروعها نقيضاً للقيم الفرنسية، وأن تكون طبيعيّاً وبديهيّاً مع مَن يحمل ثقافة الحياة لا ثقافة الموت.
وقبل لودريان وما بعده، يستحيل أن يصدِّق أيّ مواطن لبناني بأنّ باريس فضلت مصالحها بدلاً من إرثها الحضاري والانساني، ويستحيل أن يصدِّق بأنّ الدولة التي تحفر تجربتها في عمق التاريخ أُحبطت من المسألة اللبنانية وقرّرت تسليم مفاتيح رئاسة الجمهورية اللبنانية إلى فريق الممانعة الذي ليس فقط لا يحمل مبادئ الثورة الفرنسية، إنما يعتبر هذه المبادئ خطراً على مشروعه، كما يستحيل أن يصدِّق أنّ فرنسا الديموقراطية العلمانية قرّرت تسليم لبنان إلى ديكتاتورية مذهبية تحمل عقيدة سياسيّة ضدّ الإنسانية.
والجدير بالذكر، ان الشعب اللبناني الذي يعتبر فرنسا أمّه الحنون، يتوقّع من الرئاسة الفرنسية أن تكون في موقع الدفاع عن لبنان السيادة والحرية والاستقلال، وأن تكون في موقع الرافض للانقلاب المتمادي على الدستور اللبناني، وأن تكون في موقع الساعي إلى تطبيق القرارات الدولية، ولا يمكن أن يتصوّر إطلاقاً أنّ فرنسا أصبحت إلى جانب الفريق السياسي الانقلابي على الدستور والرافض تطبيق القرارات الدولية والمحوِّل حياة اللبنانيين إلى جحيم.
والرسالة التي يجب أن يفهمها لودريان وماكرون من خلفه، بأن الشعب اللبناني يشعر أن فرنسا تخلّت عنه وتركته لقمة سائغة في فم ديكتاتوريات قاتلة وغاشمة تشكّل امتداداً لعصور الظلام، فيما جُلّ ما كان مطلوباً من ماكرون أن يكون إلى جانب الشرعيّتين اللبنانيّة والدولية، علماً أن هذا الشعب اليوم يطلب القليل، وهو أن تكون فرنسا مع الحق والمساواة والحرية وأن تطوي صفحة مبادرتها الأخيرة التي تغطي مشروعاً كارثياً وخطيراً لمصلحة مبادرة جديدة تطبّق فيها بيان اللجنة الخماسية، فتكون الرئاسة بداية لمشوار فرنسي جديد مع لبنان تكون فيه رأس حربة الدفاع عن قيمه وسيادته وحريته وانسانه الذي يريد العيش وسط “حرية، مساواة، أخوة” وليس “عبودية، ظلامية، رجعية”.